Thursday, October 11, 2018

التدبر أَم الحفظ أَم السماع أَم القراءة؟

منذ فترة ونسمع دعاة كُثر يدعون إلى التدبر والتقليل من أهمية حفظ القرآن أو سماعه بغرض التلذذ بصوت القارئ أو القراءة بغرض الثواب... ويدعون فقط إلى التدبر ثم التدبر ثم التدبر..
ثم تجدهم يحتجون أن نفراً من قراء القرآن من يؤيد الظالمين، وأن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي فيها من يهتم بالحفظ لا بالتدبر، وأن التدبر هو ما يغير البشر لا الحفظ ولا السماع ولا القراءة الفاقدة للتدبر..
والكلام على الرغم أن له وجاهة ولكنه يفتقر لعدة أمور منها ما يلي:

١. كثير من الشيوخ والعلماء ممن لهم كتب ورسالات دكتوراة في التدبر من يؤيدون الظالمين من حكام المسلمين حاليا منهم من مات ومنهم من يعيش بيننا الآن. وبدون ذكر أسماءهم... وقد رأيت أيضا من تعمق في التدبر ولم يغير التدبر شيئا في أخلاقه أو موقفه السياسي أو غيره، إذاً هذا ليس مقياساً...هو أمر محمود ومأمورون به ولكنه ليس كل شيء وليس مقياسا للهداية.. ولقد رأينا من القراء من يُصفع بالقلم ويُطرد من المسجد في مصر وهو بالولايات المتحدة الآن لأنه دعا على الظالمين بعد مذبحة رابعة.

٢. القرآن خُص بخاصية أنه سهل الحفظ لمن استعان بالله على ذلك، وقد حث الرسول ﷺ على ذلك عندما قال الحديث المعروف (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة...إلخ).. والماهر لا يكون ماهرا إلا إذا حفظه وأحكم تلاوته وترتيله، وما نجده في مساجدنا اليوم من ضعف في الحفظ وفي أحكام التلاوة يظهر مدى احتياج المسلمين لحافظ قرآن في كل منطقة على الأقل، وإلا تُركت المساجد لعامل المسجد والذي لا يستطيع أن يقرأ الفاتحة ثم إذا تقدم أحد رواد المسجد من ذوي الشهادات فتجده لا يختلف كثيرا عن عامل المسجد من حيث الحفظ وأحكام التلاوة.
وقد انتشرت مقولة عن عمر بن الخطاب أنه "تعلم سورة البقرة ثمانية أعوام" وقالوا هذا عمر، فكيف بغيره! وكان الرد أن "تعلم الأمر" لا يعني حفظه بل تعلم الأحكام والشرائع الموجودة بسورة البقرة وهي كثيرة فعلا، وقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات، القراء من أصحاب النبي  ﷺ فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة، قال السيوطي: وسبقه إلى ذلك ابن كثير. إذاً قد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ختم القرآن حفظاً وهذا معنى (القراء) أي (الحُفاظ) في زمننا هذا، بل وذُكر أن بعض الصحابة كانوا يقرأون عليه! وقد ثبت أيضا أنه كان يصلي بالناس صلاة الصبح بسورة يوسف تارة فيبكي ويعلو بكائه حتى تسمعه الصفوف الخلفية عند (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) وقيل أنه كان يتذكر موت رسول الله ﷺ فيبكي عند هذه الآية، وروي أنه صلى بالناس صلاة الصبح بسورة يونس مرة أخرى.. إذاً هو إدعاء غير صحيح. وقد جاء عن عمر أنه قرأ في الركعة الأولى من الصبح الكهف وفي الثانية يوسف. وقد قرأ النبي ﷺ في الركعة الأولى النساء وفي الثانية آل عمران.
وقد زوج الرسول ﷺ رجلا بسور يحفظهن من القرآن فقال له "فهل معك من القرآن شيء قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجتكها بما معك من القرآن"

وروي عن الرسول ﷺ أنه قال "يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها"، قال الشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله : " ( يقال ) : أي عند دخول الجنة ( لصاحب القرآن ) : أي من يلازمه بالتلاوة والعمل ، لا من يقرؤه ولا يعمل به.. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويؤخذ من الحديث أنه لا ينال هذا الثواب الأعظم إلا من حفظ القرآن وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له.. يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله : " الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب ، لا بمن يقرأ في المصحف ؛ لأن : مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ، ولا يتفاوتون قلة وكثرة ، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب ، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم . ويقول الشيخ الألباني رحمه الله : " اعلم أن المراد بقوله : ( صاحب القرآن ) حافظه عن ظهر قلب ، على حد قوله صلى الله عليه وسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله.. )، أي : أحفظهم. ولكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى ، وليس للدنيا والدرهم والدينار ، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أكثر منافقي أمتي قراؤها ). وعن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال : ”اقرأوا القرآن فإن الله تعالى لا يعذب قلبا وعى القرآن، وإن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن، ومن أحب القرآن فليبشر “ رواه الدارمي

٣. سماع القرآن والتلذذ به أيضا من السنة، ويدل عليه حديث أبي موسى عندما كان يستمع له النبي ﷺ والصحابيان أبو بكر وعمر ثم عندما علم بسماع النبي ﷺ اليوم التالي فقال له النبي  (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود) فقال (أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرا) و قد كان عمر يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم، وأيضا "أن أبا موسى قام ليلة يصلي ، فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صوته - وكان حلو الصوت - فقمن يستمعن ، فلما أصبح قيل له ، فقال : لو علمت لحبرته لهن تحبيرا" - والتحبير تحسين الصوت وتحزينه - وحديث الرسول ﷺ لابن مسعود (اقرأْ عليّ)، فقال: أَقْرَأُ عليك وعليك أُنْزل؟ فقال ﷺ أحب أن أسمعه من غيري).
وقد كان أكابر قريش ينهون الناس والحجاج أن يستمعوا للقرآن وأن يلغوا فيه لعلهم يغلبون، وقد كانوا يلقون بالأشعار وما شابه قصص القرآن من حكايات القرون السابقة ولكن القرآن كان لوقعه في النفوس شيء آخر، وهذا لما ميزه الله تعالى، وقد حكى قراء عدة عن أسفارهم في بلاد غير المسلمين وأن كثيرا من غير المسلمين قد أسلموا فقط عندما سمعوا تلاوة للشيخ المنشاوي والشيخ عبدالباسط عبدالصمد قد قالها في حوار تليفزيوني له، والشيخ محمود الشحات أنور وغيره وقد سمعت مؤخرا ذلك الأمر من قارئ نادي الصيد الشيخ الشيخ عيد حسن أبو عشرة نفس الأمر من أعاجم لا يفهمون شيئا من القرآن، وقد رأيت ذلك أيضا في مسجد الشيخ شرزاد طاهر بالشارقة على اليوتيوب من يسمتع للقرآن فيدخل المسجد ويحضر الصلوات ولا يصلي ثم يقول (لقد شعرت براحة وأنا أمر بجانب المسجد وسمعت ما ترتلونه ومنذ عدة أيام وأنا آت لأستمع صلواتكم وأريد أن أسأل عن هذا الدين). وهذا بالأعجمي، فكيف بالعربي؟ ألا يتأثر بسماع القرآن من صوت خاشع نديّ؟
وقد قال الشيخ الحصري في كتابه (مع القرآن الكريم): قالوا: ولابد للنفس من الطرب والاشتياق إلى الغناء، فعُوِّضَت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عوضت عن كل محرم مكروه بما هو خير منه.

٤. أما عن القراءة حتى وإن كانت بلا تدبر: فقد قال ﷺ إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء " قيل : يا رسول الله وما جلاؤها ؟ قال : " كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن ". إذاً "كثرة" تلاوة القرآن مجلبة للتدبر، وهذا ما ينصح به نفر من الأكاديميين عند قراءة الكتب أنه ليس بالضرورة أن تقف عند كل كلمة بل اقرأ قراءة متأنية ثم ارجع مجددا وهكذا.
وأيضا حديث (عن أبي أمامة البَاهِلي رضي الله عنه أن رسول الله  قال (اقرؤوا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه ، اقرؤوا الزَّهراوَينِ البقرة وسورة آل عمران) وحديث (من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف) وأحاديث أخرى للحث على قراءة القرآن.

ما أود أن أقوله أنه عندما يؤخذ من الدين جزء ويترك أجزاء فقد تركنا خيرا كثيراً، واقتصار القرآن على تلاوته من أجل التدبر فقط وتجاهل الأحاديث والآيات الحاثة على الأوجه الأخرى قد يكون سببا لإيقاف من كانت لديه الهمة العالية في أي من هذه الأوجه أن يبادر، ولعلها تكون سببا في هدايته ومدخلا لباب آخر كالتدبر أو العلم الشرعي وغيره.
وقد قال إبراهيم الخواص: ليس العلم بكثرة الرواية؛ إنما العالم من اتبع العلم، واستعمله، واقتدى بالسنن، وإن كان قليل العلم..
وكذلك أي شيء آخر كحفظ القرآن أو تلاوته وسماعه ليست العبرة بكثرته بل بكيفيته، ولكن هل هذا نداء من إبراهيم الخواص بترك تحصيل العلم والإكتفاء بالقليل منه حتى تطبيقه؟ بالطبع لا، بل قال الله تعالى (وقل رب زدني علماً) إذاً ما الحل للعدل بين الخيرين؟ محاولة الإستزادة مع المجاهدة للتطبيق. فلا يُلام المستزيد المفَرّط بل يُشجع على تطبيق ما استزاد منه ولا يُشجع المقل على جودة اتباعه بل يُحث على الإستزادة مع التطبيق.
وأخيرا في مسألة حفظ القرآن الكريم فقد كان غالب قراءة الرسول ﷺ بالمفصل: فطواله للصبح وأوساطه للعشاء وقصاره للمغرب وكان يطيل عن ذلك أحيانا وأحيانا يقصر...

فأذكر نفسي وإياكم على الأقل أن نجتهد في حفظ المفصل كحد أدنى مع تعلم أحكام التلاوة ومن أراد الإستزادة فجزاه الله خيرا ولا يُهاجم ولا يُثبط. ومن لا يقدر إلا على القصار فلا يلوم غيره ولا يثبطه ولا يُلام هو أيضا، ولكن أحببت هنا أن أصحح عدة أمور رأيتها مؤخرا من بعض الدعاة وكأنهم يقولون للناس (لا تحفظوا القرآن، تدبروه فقط ويكفيكم للصلاة قليل من قصار المفصل) وهذا أظنه يمنع خيرا كثيرا عن من لديه همة في الحفظ أو في القراءة أو في سماع القرآن والإكتفاء به عن الأغاني، وهذا الإدعاء لم أجده في السُنة.
وأخيرا أنصح من يقرأ هذا الكلام ولا يكتفي ولا يقتنع أن يقرأ كتاب الشيخ محمود خليل الحصري (مع القرآن الكريم) ففيه الجواب الشافي بإذن الله.

Tuesday, August 14, 2018

حقيقة الحياة! لمن لا يعرفها..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بسم الله الرحمن الرحيم،

هذه المقالة أو التدوينة هي مكملة لما قبلها، وكنت في المرة الماضية قد تكلمت عن مسببات الثبات عسى الله أن يثبتنا وإياكم على الحق حتى نلقاه. ولكن هنا أريد أن أتكلم عن كيفية التعامل مع من ترك الساحة المسماة بالفنية كأختنا حلا شيحة أو من تركوا دينهم ودخلوا في الإسلام، وفي الحالتين يشترك الشخصان في أنهما نشئا في محيط وبيئة غير متدينة نهائيا سواء مسلمة أو كافرة، وهذا اجتهادي والله أعلم، ظناً مني أنه إذا تعامل المحيطون بهم بهذا الأسلوب سوف يساعدهم على الثبات وهو مجرد سبب من الأسباب، وما الثبات والهداية في النهاية إلا من عند الله عز وجل.

وأرى أن هناك سببين أساسيين لرجوع إخوتنا إلى ما كانوا عليه:

أولا: معاملة الناس لهم بعد هذا التحول.
ثانيا: عدم الدراية بالحياة بعد هذه الخطوة.

نأتي للنقطة الأولى:

ما لاحظته أن الناس إذا رأت هذا الأنموذج يعاملونه وكأنه صحابي-صحابية من زمن النبوة، فينظرون له بكل إجلال وتعظيم وإعجاب، وهم معذورون في ذلك فقد ترك ما لا يستطيع الكثير تركه، لقد ترك شهوة الشهرة وانخلع منها ومن محيطها وهو مغموس فيها فكيف لا يعجب له الناس! ولكن للأسف هذا الإعجاب يأخذه إلى مستوى من المسئولية أحسبه شاقا عليه، فهو الآن يعامل كصحابي أو نبي مرسل، وهو ليس كذلك، بل هو لا يزال إنسانا ضعيفا، يُخشى عليه من الزلل كجميعنا، ويُخشى عليه من الإشتياق للصحبة القديمة، والشهرة والمال...إلخ وكلها قد زُينت له كما ذكرالله تعالى في القرآن الكريم (زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث..ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسن المئاب) سورة آل عمران ١٤، إذاً هو في اختبار أصعب من إختباراتنا العادية، وهو معرض للزلل أيضا أكثر من غالبيتنا الذين هم في منأى عن هذا المحيط.

والحل: معاملة الناس لهم بالترحاب والحب والصداقة، ولكن بدون إعجاب زائد يجعلهم يشعرون أنهم أنبياء فلا يقوون على ما يواجهون فيما بعد من إبتلاءات أو شهوات ثم بعد فترة زمنية يكتشفون أنهم ليسوا كذلك بل هم بشر ضعفاء.

تخيل مثلا أن أحد حديثي التخرج قد تم تعيينه في شركة كبيرة وبعد تعيينه فوجئ بالجميع يصفقون له ويقولون له لقد عُيِّنتَ مديرا للشركة وأنت عالم في تخصصك وعلى علم بالإدارة وما إلى ذلك، ماذا تنتظر من هذا الشاب أن يفعل؟ سوف ينهار بعد عدة ايام بعد ما يصطدم بالمشاكل الحقيقية في الشركة والتي تحتاج حتى يواجهها إلى تدرج في الوظيفة وتعلم وتواضع حتى يصل لهذه المنزلة وأن من حوله كان من الأحرى بهم أن يعاملونه على هذا الأساس حتى لا يشقوا عليه ويحملونه فوق طاقته.

ورجوعا للملتزم: ما يحدث أن هذا الشخص يبدأ فورا بحضور الدروس لكي يلقي محاضرات عن قصة توبته، ثم يبدأ بإعطاء دروس بعد فترة وجيزة، فتُسلط عليه الأضواء ويكبر في عين نفسه وعين الآخرين ويكون هذا ضارا له فيما بعد، إذا أراد أن يتعامل مع ضعفه وآدميته فلا يعرف لأن الناس كلهم يراقبونه فتتقزم أمامه مراقبة الله تعالى وتتضخم مراقبة الناس له حتى يسأم هذه الحياة المبنية على خوف الناس ومراقبتهم فيتركها بالكلية.

ثم النقطة الثانية:
عدم معرفة حقيقة الحياة بعد التدين، والحقيقة أن الحياة بعد التدين ليست جنة مليئة بالأزهار، بل هي حياة عادية جداً مليئة بالإبتلاءات تارة والإختبارات تارة والفرح تارة والحزن تارة وقد قال الله تعالى ذلك في كتابه الكريم (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) - سورة البقرة ١٥٥، وأيضا (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) سورة محمد ٣١..

ولكن كيف تكون الحياة كذلك وقد قال الله تعالى (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) سورة النحل ٩٧؟

ما أعتقده أن الحياةَ تكونُ حياةً طيبة إذا قنَّعك الله بالقليل وبما عندك وإذا رزقك الصبر على البلاء فتكن وقتها حياة طيبة.

إذا تركت ملذات الحياة ووقفت بين يدي ربك آناء الليل ساجدا وقائما، إذا اجتنبت المعاصي وأقمت الفرائض والسنن وجاهدت في الله حق جهاده وقتها تجد لذة العبادة في قلبك وعند المصائب تجد الصبر والسلوى والثبات وعند قراءة القرآن تجد الأنس والراحة وكأنك تحيا حياةً ثانية وسط كل بلاءات الحياة.. يشكو الناس قلة المال وأنت تجد البركة في القليل أو عدم المرض وآخرون ينفقون أموالهم على العلاج والمستشفيات والعيادات مثلا، تجد عدم التوفيق عند من حولك وتجد حب الناس لك وتجد الرضى بالقليل، تجد عقوق الأبناء عند غيرك وتجد بر أولادك لك، تجد تشتت من حولك ولم شملك وعائلتك وهكذا وإن ابتليت ببعض هذا تجد نفسك صابرا.. هذه هي الحياة الطيبة، ولكن أن يتصور الملتزم أن حياته بعد الإلتزام ستكون خالية من الشقاء وستكون مليئة بالبهجة الدائمة، فهذا لم يقل الله به ولم يخبرنا به رسول الله ﷺ.

من المحتمل أن يكون زوجك الملتزم المتدين الدارس للعلم الشرعي الحافظ لكتاب الله تعالى المحافظ على الصلوات بالمسجد سيء الطباع أو سيء المزاج، أو عاطلا عن العمل أو فقيرا أو غنيا ولكن بخيلا أو انطوائيا أو مكتئبا أو عصبيا أو لا يناسبك وأيضا من المحتمل أن تنفصلا لأي سبب غير مذكور! من المحتمل أن يتزوج بأخرى أو بأخرتين! وقد رأيتها شخصيا عندما أسلمت سيدة أمريكية لكي تتزوج من مسلم وعملت بالدعوة ثمانية أعوام ثم تزوج هو بعد ذلك بأخرى فتَرَكَتِ الدينَ بالكلية وكأن لسان حالها يقول (أهذا الدين هو سبب هذا الزواج الثاني؟ إذاً لا أريده بالكلية) وكأن آية التعدد لم تكن مكتوبة عندما تزوجته ثم أضيفت بعد ذلك مثلا! أو أنها أسلمت فقط إيمانا بهذا الرجل وليس إيمانا واتباعا لله! والله أعلم بالسرائر.

أيضا من المحتمل أن تقابل عالما أو قارئا للقرآن ثم تكتشف أنه ذليل المال ويستخدم علمه لجني المال، من المحتمل أو من المؤكد أن تجد من حولك من الملتزمين كلٌ منهم مبتلى بمعصية، فمنهم من ابتلي بداء حب الشهرة ومنهم من ابتلي بداء الفضول، أو البخل والشح أو الخداع أو شهوة النساء أو يعمل عملا فيه معصية كربا أو غيره....إلخ وأحيانا نصادف من سمته التدين وتجده يستخدم التعريض في كل كلامه فيصبح مدلساً وكذابا، وهكذا ولا تنتهي النماذج. 

فيجب أن يعلم الملتزم أننا كلنا في نفس اختباره فمنا من ينجح ومنا من يرسب وهكذا حتى الممات ولا ندري أنقبض على هذا الحال أم ذاك ولعياذ بالله.. ولكن أن يتصور أنه قد دخل عالَمًا من الملائكة فهذا ظلم له ولمن حوله وسوف يصطدم في النهاية سواء بالزوج-الزوجة-أخلاق الناس-ضيق العيش...إلخ فيُصدم ويقول في نفسه هؤلاء منافقون وأنا كنت أعيش وسط أناس عصاة ولكنهم لم يكونوا منافقين... ولكن الحقيقة أن العاصي إذا ستر نفسه كان أفضل عند الله من هذا الذي يجهر بمعصيته، ومن إلتزم بما يستطيع من الدين ولازال عنده من المعاصي أو حتى من الكبائر ما لم يتب منه أو يجاهده فهو أفضل ممن لا يريد أن يتوب أو أن يعترف أنه يذنب أصلا ويجاهر بجميع المعاصي.

والحل أن نرشده إلى حقيقة الحياة حلوها ومرها وابتلاءات الله تعالى لعباده بعد الهداية... وأن الجزاء الأوفى والراحة الأبدية في الجنة وأن الدنيا دار امتحان وبلاء وأن جنته في قلبه إذا خلى بربه وبَعُدَ عن الشهوات والشبهات وجاهد في الله حق جهاده.

(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) سورة العنكبوت ٢-٣

أرجو أن أكون قد وُفقت في هاتين النقطتين وأسأل الله أن نكون عونا لعباده على بصيرة حتى نلقاه.

Monday, August 13, 2018

فتزل قدم بعد ثبوتها ...


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بسم الله الرحمن الرحيم..

بعد ما رأينا الممثلة المعروفة حلا شيحة وقد رجعت إلى ما كانت عليه بعد التزام دام ١١ عاما أو أكثر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكانت أكثر التزاما (ولو ظاهريا) من أكثرنا.. فحدث حزن عميق عند من يعرفها ومن لم يعرفها.. حتى أني دعوت الله لها وطلبت من والدتي أن تفعل ذلك أيضا، لأن الأمر أن تراه بأم عينيك ليس بالأمر الهين، فنحن رأيناها تترك الساحة المسماة بالفنية بشكل تدريجي ثم عُرفت أنها تعطي دروسا للأخوات بالأخص من بنات طبقتها وقد حضرت لها زوجتي وتأثرَت بكلماتها أشد الأثر، وكانت تشهد لهذا الوسط الذي تركته بكل منكر، فهي لم تذكر أنه وسط نظيف أو يمكن لأحد أن يوازن بينه وبين دينه بل فضلت تركه بالكلية لما فيه من منكرات لا مفر من الوجود وسطها.. فكان لمن حضر لها أن تأثر بكلامها بل وكره هذا الوسط كله بعد ما كان فقط له عليه بعض التحفظات... وكان الجميع حتى ممن لم يتخذ خطوتها كان يفرح لها ويدعو لها بالقبول والثبات.

وأنا هنا أود أن أتكلم عن عدة أمور لنا وليس لها، فنحن لا نملك لها إلا الدعاء.

أولا: الثبات ليس فقط منة ومنحة من الله سبحانه وتعالى بل أيضا له أسباب.

ومن أسبابه الإفتقار لله والعلم الدائم أن الهداية ما هي إلا من عند الله سبحانه وتعالى، حتى أن رسول الله ﷺ لم يضمنها لنفسه وقد قال الله تعالى له (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) وقال تعالى (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا...)

- ومن مزيلات حالة الإفتقار لله تعالى: شكر الناس فيك ومدحهم لتدينك وهو من المهلكات كما قال ﷺ عندما مدح صحابيُ تدين صاحبي آخر فقال له ﷺ "ويلك قطعت عنق أخيك (ثلاثا) من كان منكم مادحا لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي أحدا على الله)، فهذا المدح يؤدي إلى ثقة بالنفس وشيئا فشيئا يزيل عنك حالة الإفتقار ويحدث العُجب بالنفس.

- وأيضا من مزيلات حالة الإفتقار لله تعالى: العُجب بعد العبادة أو تحصيل العلم، فيمكن بعد تحصيل علم معين أو بعد ختمة لكتاب الله حفظاً أو غيره من التحصيل العلمي ينتابك العجب فتنسى من علمك هذا ثم ضف على هذا مدح الناس فيك تباعاً.

ثانيا: الثبات مثل ركوبك السيارة وأنت في سفر دائم أو وجودك على قارب في عرض البحر أو طائرة محلقة في الجو أو حفاظك على جسد سليم أو محاولتك للحفاظ على نجاح شركتك.

ما معنى هذا الكلام؟

- كثير منا يعتقد أن أسباب الدنيا لا علاقة لها بأسباب الآخرة... ولكن:

        من يريد أن يسافر بسيارة أو طائرة سفراً دائما يجب عليه ملأ السيارة بالوقود بشكل دوري والكشف على السيارة كذلك كل عدة آلاف من الكيلومترات، ويبقى متيقظا لألّا ينفد الوقود أو يتعطل شيء من السيارة وهو لا يدري فيؤدي ذلك لوقوفها وإيقاف الرحلة تباعاً! ثم بعد ذلك عدم الإلتفات إلى أي شيء يعوق حركته أو مساره في اتجاه هدفه.

        ومن يستقل قاربا ليبحر به في رحلة دائمة يجب عليه أن يكشف على القارب من حين لآخر وأن يكون على علم بحركة الرياح والأرصاد والطقص وحالة البحر والصيانة الدورية للقارب ويتصرف بناء على ذلك ولا يغفل وإلا فاجأه ما لم يكن يجهز له فيحدث ما لا يحمد عقباه! ثم عدم الإلتفات إلى أي شيء يعوق حركته أو مساره في اتجاه هدفه.

        وحفاظك على جسد سليم ليس نتاج اهتمام يوم وليلة أو حتى شهر أو سنة، بل هو عمل دائم مستدام، يجب عليك دوما أن تراقب حركتك ووضعية جلوسك وطعامك وشرابك وعاداتك....إلخ إلى أن تموت، فلا يوجد يوم تقول فيه ها أنا قد وصلت لما كنت أتمناه فاليوم لن ألعب الرياضة وسآكل ما يحلو لي ولن يتأثر جسدي! 

        ونجاح شركتك كذلك يطلب منك دراسة للسوق ومتغيراته والإقتصاد ومحدداته ومتغيراته وعلم الإدارة والإستعانة بالغير كمساعدة أو كاستشارة وسعي دائم وإلا أُغلقت شركتك كما شاهدنا شركات عديدة تغلق بسبب سكونها وسُباتها وعدم الوعي بما يحدث حولها والإكتفاء بالموجود.

وكذلك الأمر في الدين، فأنت في الدين كمن هو في رحلة دائمة، رحلة إلى الله تعالى، نهايتها الموت، وأنت لا تدري متى تأتي هذه النهاية فعليك بملأ الوقود والزاد الذي تحتاجه للرحلة بشكل دائم مستدام (وقل رب زدني علما) إذاً الزاد هنا هو العلم، ثم عليك بالإستشارة وطلب المساعدة (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، والصحبة (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم...)، ثم عليك بالمراجعة الدائمة (الصيانة الدورية) مثل حضور مجالس الذكر، الذهاب للمساجد، قراءة القرآن....إلخ ، ثم عليك بالوعي بالفتن حولك لكي تأخذ حذرك منها فلا تجلس في مكان شبهة أو وسط صحبة سيئة أو في عمل محرم فيُسلب دينُك وأنت لا تشعر، ثم عليك بعدم الإلتفات إلى أي شيء يعوق حركتك أو مسارك في اتجاه هدفك وهو "الله" سبحانه وتعالى. ومن المعوقات التي لا ينبغي لك أن تلتفت إليها وهي على ما أعتقد من المهلكات: الصحبة القديمة، عدم اعتزالك هذه الصحبة حتما من المهلكات.

إذاً يمكننا تلخيص النقاط السابقة فيما يلي:

١. الإفتقار إلى الله واستشعار فضله ومنه.

ومزيلاته: -العُجب الذي يأتي من مدح الناس. -العُجب بعد تحصيل العلم أو تحقيق عبادة.

٢. ملأ الوقود بشكل دائم والتزود غير المنقطع من أنواع العبادات المختلفة، الخفية منها والظاهرة.

٣. الصحبة الصالحة، فإن لم تجدها فعلى الأقل اعتزل الصحبة السيئة القديمة وإن انتهى بك الأمر أن تعيش وحيداً، فهذا دينك وإن علمت أن مجالسة بعض الناس سوف تجلب لك الفقر والإفلاس لاعتزلتهم فما بالك بدينك وهو أغلى عندك من المال؟.

٤. المراجعة الدورية، دُبر كل يوم، أسبوع، شهر..موسم (رمضان، حج.....إلخ)

٥. الوعي بما يحدث حولك من فتن فلا تقع فيها وأنت لا تشعر، وبإمكانك أن تسأل نفسك لو كان رسول الله أو أحد الصحابة الكرام مكاني ما الذي كان سيفعله؟

٦. عدم الإلتفات إلى أي شيء يعوق حركتك أو مسارك في اتجاه هدفك. (فإذا عزمت فتوكل على الله) ولا تلتفت إلى الوراء أو يمينا ويسارا.

٧. وأخيراً الدعاء (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فلولا تثبيت الله لك ما ثبتَّ.

وأسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يثبتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وأسال الله تعالى أن لا أكون من الذين يقولون ما لا يفعلون.. وهذا اجتهادي والله أعلم.

"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" سورة العنكبوت (٦٩)

Saturday, July 7, 2018

مشكلة بمساجد مصر تحتاج لحل!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يوجد ظاهرة لا أعرف كيفية حلها في المساجد بمصر، نجد جميعا كبار السن مشكورين يقومون على إدارة المسجد، متى يُفتح ومتى يُغلق، من يصلي بالناس ومن يؤذن ومن يقيم الصلاة....إلخ
وقد وجدت مهزلة في الأمور الثلاث الأخيرة: الإمامة، الأذان والإقامة.
أولا يوجد تقصير من الدولة من هذه الناحية، فلا تُعين الأوقاف مؤذنين للمساجد فيُترك الأمر للسكان المحيطين بالمسجد ثم تجد البواب أو عامل المسجد أو أحد السكان من كبار السن وللأسف جميعهم لا يؤذن بالأحكام اللغوية الصحيحة كمن يقول مثلا (اللهُ أكبرَ اللهُ أكبر) فضلا عن ردائة الصوت للأسف... وفكرت ملياً هل يستطيع أحد من الشباب أن يأخذ مسئولية الأذان في الخمس صلوات بدلا من  هؤلاء الأفاضل؟ فوجدت الإجابة بالنفي لأن حياتنا كشباب ليست مستقرة ككبار السن ممن يجلسون بالمنزل بسبب التقاعد عن العمل، فتجد منهم من يلتزم العام بأكمله للأذان لصلاة الفجر وهذا ليس بالأمر السهل... إذن هؤلاء الأفاضل لهم فضل كبير علينا بعد الله سبحانه وتعالى.. ثم نأتي للإمامة فأحيانا تجد من يقود الإمامة هو بواب المبنى المجاور للمسجد أو عامل المسجد وتجده جاهلا بأحكام التلاوة وأبسط قواعد اللغة العربية ولا حول ولا قوة إلا بالله..
السؤال هنا: كيف تُحَل هذه المشكلة مع الوضع في الإعتبار أولا أن الحوار مع كبار السن ليس بالأمر السهل بالأخص إذا جاء الإعتراض ممن في مثل أعمارنا وثانيا أنهم بالفعل ملتزمون بهذه الأمور ولم يُقصروا فيها، فعلى من يعترض على هذا الوضع أن يجد نظاما بديلاً مستداما وليس مؤقتاً.
إذا كان لدى أحدٍ من القراء المحترمين اقتراح فليقله متفضلا وإن لم يجد فأسألكم الدعاء لأن الحال لا يسر.

وجزاكم الله خيرا

Tuesday, June 5, 2018

النعمة التي لا نشعر بها

منذ عدة أعوام كنت أدرس بإنجلترا بمدينة لندن، وكنت أقيم بمنزل للطلبة تابع للكنيسة الألمانية وكان بها نزلاء من جميع الجنسيات كلهم طلبة دراسات عليا في جميع المجالات، وكانت التجربة ثرية جداً، رغم أني كنت أتجنب الحفلات والتجمعات الليلية ولكني كنت أتناول إفطاري مع الجميع، وكل يوم كان يجلس على طاولة الإفطار ثلاثة غيري (بحيث أن كل طاولة يجلس عليها أربعة) فكنت يوما أجلس مع الإفريقي، ويوما مع الألماني ويوما مع الأمريكي، ويوما مع الصيني ويوما مع المكسيكي أو التايواني، ويوما مع أكثر من جنسية، وحدث يوما أن جلسَت على الطاولة فتاة أمريكية، وكان من بروتوكولات المكان أنه يجب على الناس أن تتكلم على الإفطار كنوع من التقارب الثقافي، فكان كلُّ منا يفتح موضوعا عن بلده أو دراسته فبدأ الحديث عن ما تفعله الأمريكية فقالت بمنتهى الإعتزاز أنها تدرس لكي تساعد المحتاجين في أدغال أفريقيا فسألتها ولماذا تركت أمريكا ويتمنى العالم كله أن يهاجر إلى هناك، فقالت بنفس مستوى الإعتزاز أن الموضوع أكبر من الحياة في أمريكا بل التجربة نفسها تستحق أن تترك أمريكا من أجلها لأن الأمر له ابعاد إنسانية ونفسية أخرى ورسالة وقيمة للمهنة نفسها وما تفعله... ولك أن تتخيل أيها القارئ العزيز أنها تركت أمريكا لكي تعمل وسط أدغال أفريقيا ثم تركت أفريقيا لتدرس علماً يفيدها في عملها ثم ترجع مجددا إلى مكانها في أفريقيا.

موقف آخر، كنت في رمضان وفي طريقي من لندن لاستنبول ترانزيت ومن استنبول إلى القاهرة، وكنت أجري وأحمل حقيبة وأجر أخرى حتى وصلت الطيارة وكنت منهكاً فاستخرت أن أفطر لأن اليوم كان في بدايته ولي رخصة الإفطار، فجائت الوجبة فبدأت بالأكل وكان بجانبي تجلس فتاة قد أكلت أكلها وتركت سمكا مدخنا فقدمته لي على أنها لا تأكل اللحوم وأنها تأكل فقط الخضروات، وبدأ الحديث عن من أين أنا وإلى أين اذهب وما إلى ذلك، ثم سألتها نفس السؤال فقالت لي أنها إنجليزية تدرس الطب بجامعة غير معروفة بليڤرپول، فسالتها عن سبب سفرها إلى استنبول فأجابت أنها ستأخذ طائرة من استنبول إلى نيپال بسبب نتائج الزلزال هناك والذي أدى إلى حوادث خطيرة وقد أرسلتها كليتها لكي تؤدي التدريب الصيفي شهرا هناك وسط حالات خطرة ثم تعود إلى إنجلترا.

تعجبت أن غيرنا يسافر ويترك التنعم لكي يرى مِحَن غيره لكي يساعدهم سواء بدافع إنساني/ديني أو بدافع تعليمي وكلها إفادة، بينما يترك أهل هذه البلاد بلادهم لكي يسافروا أمريكا أو أوروبا من أجل حياة أفضل!

قد يقول أحد أن من يحيا حياة بها حرية واكتفاء مادي يكن عادة لديه هذا الإحساس، إحساس مساعدة الآخر، والدليل على ذلك أن مصر خلال فترة الثورة كان يذهب شبابها إلى غزة والصومال وغيرها للمساعدة، ولكن في أوقات الأزمات السياسية لا يملك نفس الإنسان أن يساعد غيره بسبب القمع وقلة المال والإحباط العام.

إذاً ما العمل للخروج من هذه الدائرة؟ أننتظر أن ينصلح حال البلد حتى نساعد ملايين الفقراء الذين حولنا، أم أن نسارع بالسفر كما يتمنى الكثير منا ويعمل على ذلك، أم أن يكون كل همنا هو "البقاء" كحلم كل من يعيش في أي دولة قمعية فقيرة؟

الإجابة يستطيع أن يجيبها كل واحد منا على حدة، ولكن إذا كان لدينا شيء نقدمه فلا يجب أن نتأخر. وليكن من باب التعليم  والخبرة إن لم يكن من باب الإنسانية أو الدين.

Monday, June 4, 2018

ما أؤمن به وأدعو إليه

إذا كنت لست ممن يهتمون بالعمارة (الهندسة المعمارية) فلا أعلم حقيقةً هل ستحب هذه التدوينة أم لا، وتذكر أني حذرتُكْ!

بدايةً أود أن أقول لماذا أتكلم عن ما أؤمن به وأنا الآن شخص عادي لا يعرفني أحد ولماذا لا أنتظر حتى النجاح والشهرة حتى أتكلم:

أرى أنه ليس من البطولة أن أدعو إلى ما أؤمن به وأنا قوي، فلا شك أنني عندما أكون قويا سيسمعني الناس بسبب قوتي، ونلاحظ أن الله تعالى لم يُنزل الرسالة على الأنبياء ليبشروا الناس بها وهم في موقع السلطة والقوة، بل تأتي القوة والسلطة بعد ما يدعون إلى ما يؤمنون به وهم ضعفاء لا يتبعهم إلا الضعفاء ثم بعد ذلك تأتي السلطة والقوة ولا يتغيروا بل ويكون الإختبار الحقيقي لما كانوا يدعون إليه وهم ضعفاء ... وأحيانا لا تأتيهم القوة ويموتون وهم في منتصف الطريق وبلا عدد كبير من المؤمنين برسالتهم. ومن مميزات الدعوة إلى الله في وقت الضعف أن الإنسان يدعو بقلبٍ خالصٍ لله (أو للفكرة) لا تشوب دعوته زخرف الحياة الدنيا بل هو مستعد أن يموت وهو على الطريق وإن لم يحقق شيئا فقط لإيمانه بهذه الدعوة وعلى من يأتي بعده ويؤمن بما آمن به أن يكمل طريقه.

إذاً ما الذي أؤمن به؟ وأسأل الله تعالى أن يقر عيني به في الدنيا قبل الآخرة وأن يصبح إرثا تتوارثه الأجيال يؤمنون به ويطورون عليه.

ما أؤمن به:
١. أن العمارة ليست منقسمة إلى تصميم وما بعد التصميم، بل هي العمارة، بداية من الفكرة حتى انتهاء المبنى وشغله وتقييمه.

٢. أن حصر المعماري في كلمة مصمم هي انتقاص من امكانياته العديدة الأخرى كقدرته على إدارة باقِ الإدارات الهندسية كسباكة وميكانيكا وإنشائية وكهرباء وغيرهم، فالمعماري هو الوحيد القادر على أن يفهم كل هؤلاء ويعطي حلولا لهم جميعا بما لا يعارض العملية التصميمية.

٣. أن دخول حديثي التخرج في العملية التصميمية فور تخرجهم والوقوف عندها بدون أن يمروا على باقية مراحل التصميم من تطوير التصميم والرسومات التنفيذية ثم الإطلاع على رسومات الورش ثم فهم الموقع وآلياته والمواد المستخدمة، كل ذلك يعد من صميم المهنة ويحتاجها المعماري للتصميم وحصره في أي مرحلة من المراحل لا يجعله معماريا بل يجعله خبيرا يمكنه أن يعمل في مؤسسة في هذا القسم ولكنه لا يملك مهارة التصميم المتكامل، وهو ما يحتاجه لكي يصبح معماريا حقيقيا. ولنا في تجربة رِنزو پيانو في مكتب لوِي كان وقد كان يعمل (معماري مشروع)، وأيضا في تجربة ريتشارد روچرز وخبرته في إس أو إم، ونورمان فوستر وخبرته كرسام خير مثال لمدى أهمية الخبرة مع وجود باقِ المهارات الفنية.

٤. أن ما يسمى بالتصميم البيئي ليس مرحلةً من مراحل التصميم أو معطيات من معطيات التصميم، ولا هو بحد ذاته هو التصميم، بل هو علم نقصانه يمكنه أن يدمر أي تصميم ذي شكل جميل، ولكن الإهتمام بالبيئة فقط وتجاهل الأبعاد الإنسانية والفنية والعمرانية والثقافية والتاريخية والمادية بل والكيميائية أحيانا جميعهم في الأهمية سواء.

٥. أن المعماري ليس نِداً لباقي الأقسام بل هم جميعا يعملون مع بعضهم البعض بشكل تكاملي كفريق يعزف سيمفونية بقيادة مايسترو واحد لا أحدَ نداً لآخر.

٦. أن على المعماري أن يفهم ما يرسمه قلمه، فلا يكون كمن يصمم سيارة وهو لا يعرف حجم ونوع الموتور والأسس الميكانيكية لوجود الموتور، فجمال التصميم يأتي بتحقيق إمكانية تنفيذه لا أن يكون غيرَ مدروس فيأتي فلان أو عِلان من الأقسام الأخرى فيغير ما فعله المعماري، بل كان الأولى أن يعلم المعماري في علوم الأقسام الأخرى لكي يستبق هذه المرحلة ويقطع الطريق على من يريد أن يغير تصميمه بل ويعطي له أحيانا خيارات، وإن لزم الأمر فيكون باجتماع الفريق أو بعض منه لكي يستفيد الجميع من خبرة الآخر.

٧. هذا ليس معناه أن المعماري يتخلى عن ما تعلمه وعن ما يؤمن به من نواحي فنية ولكن أن يأخذ من كل قسم خبرته وأن يعلم أن الناحية الفنية تمثل عشرة بالمائة من العملية التصميمية.

٨. العمارة في العالم العربي ضعيفة جدا وهي أقرب إلى الجسد الميت ويحييها العلم والعلم الذي يأخذه الطالب في الوطن العربي علم ضعيف جدا وناقص، ولكنه يكتمل عن طريق عدة أشكال:

أولا، عمل دراسات عليا ويُفضل خارج الوطن العربي حيث الجامعات التي تصدر العلم لا التي ليس لها مكاناً في عالم البحث العلمي.
ثانيا، عن طريق حضور ورش عمل إن لم يستطع الأولى ولكن الدراسات العليا لها فائدة كبرى من وجهة نظري أكبر من الرسالة الأخيرة أو ما يتعلمه الطالب ألا وهي معرفته بأدوات البحث العلمي والذي سوف يساعده بعد انتهاء الماچيستير في قراءاته وبحثه بشكل عام.
ثالثا، أن يحاول أن يقرأ ويشاهد ڤيديوهات تعليمية لكي لا يكون بعيدا عن ما يحدث بالخارج.. وهذا أضعف الطرق.

نعم، إن اتبعنا هذا الطريق سنكتشف أن علم العمارة مثل الطب، يلزمه سنوات من الخبرة والبحث والدراسات العليا والإختبارات حتى تصبح معماريا... هل هذا كلامي؟ لا، ليس كلامي بل في أي بلد متقدم إن قلت أنك معماري يُفهم فورا أنك خبرة ٨ سنوات على الأقل أو أكثر بسبب الخبرات المذكورة أعلاه وبسبب الإختبارات التي مررت بها لكي تكتسب هذا اللقب عن طريق المؤسسات المخولة بذلك ولكن أن تمارس المهنة فور تخرجك لأنك أصبحت عضوا بنقابة المهندسين عضوية أبدية هذا هو قمة الظلم لك قبل أن يكون ظلما للمجتمع.

Wednesday, May 23, 2018

هورمون السعادة .. وتجنب المواجهة المتكررة!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بسم الله الرحمن الرحيم،

منذ فترة وأنا ألاحظ أمراً، أن غالبية من حولي ممن يوصفون بكبار السن لديهم بعض المشاكل، أولها أنهم لم يكونوا يعلمون أنهم من فئة كبار السن! فقد كانوا متمسكين بالشباب وعاداتهم في الشباب إلى مرحلة متأخرة، حتى صُدموا بهذه الحقيقة. وهذه حقيقة تحدث للإنسان كل عشرة أعوام ابتداء من سن الثلاثين، فعندما صل إلى الثلاثين يفاجأ أنه لم يعد عشرينياً وأنه قد ودع هذه المرحلة إلى الأبد ولكنه يشعر بقوة وإستقلالية الثلاثين وأن أعمار أهل الجنة في هذا العمر، فما يلبث أن يدخل في الأربعين، ويزيد من سرعة هذه المرحلة الإلتزامات المادية التي لم تكن عنده في العشرينيات، فما يلبث أن يستقر ولو شيئا قليلا فيجد نفسه قد دخل في الأربعين، فيصدم الصدمة الثانية أنه لم يعد ثلاثينيا بعد الآن ولكنه يُصَبر نفسه أن الأربعين هو سن الحكمة والنبوة وسن الترشح للرئاسة ..إلخ... فيدخل الخمسين ويجد تغيرات حقيقية في جسده أكثر من اي فترة أخرى مع بعض الأمراض التي لابد منها وأنه قد مر من حياته خمسون عاما كاملا بلا رجعة، وأنه حتى قد تعدى مرحلتي عمر أهل الجنة وعمر النبوة والحكمة... ولكنه لايزال لم يصل للعجز.. فعلى الأقل لديه استقرار مادي وأسري (غالبا) ويستطيع أن يرمم بعض ما خسره نتيجة عوامل الزمن مثل أن يذهب إلى الچيم وأن يأخذ بعض الڤيتامينات أو حتى أن يقوم ببعض العمليات ولكن ما يقوم به من مجهود في هذه المرحلة ليصل لمرحلة متواضعة يكون غالبا أضعاف ما كان يقوم به خلال العقدين الرابع والخامس، ثم يبدأ العد التنازلي حتى الستين (سن التقاعد من الوظيفة، وما أدراك ما هذه المرحلة وما تفعلها بالرجل) ثم السبعين..وهكذا.

إذاً لدينا في هذه القصة المتكررة مشكلتان واحدة مرئية وأخرى غير مرئية:
الأولى (المرئية) هي مرحلة الصدمة عند آخر كل مرحلة ومقاومتها حتى قبولها والتكيف عليها وإيجاد روتين وحياة جديدة مناسبة للإمكانيات الجديدة.
الثانية: ما يعانيه الشخص حتى يتكيف على بقايا المرحلة الماضية ومدى تشبثه بما كان يجلب له السعادة والثقة بالنفس في المرحلة الماضية واستبداله بأشياء جديدة وعادات جديدة.

فإذا أردنا أن نجتهد لنعلم السبب وراء كل هذه التقلبات فسنجد أنها تتلخص في كلمة واحدة (دوپامين) أو ما يسمى بهورمون السعادة.

ببساطة ما يتم أن الإنسان يكون مستغرقا في عدة أمور، هذه الأمور هي ما تجعله سعيداأو بمعنى آخر هي ما تجعل مخه يفرز هذه المادة والتي تجعله يشعر بالسعادة وهو لا يعلم لأنه تكون روتينا حياتيا فما يلبث أن يفقدها فيُصدم ويحبط ويحزن حتى يجد بديلا لإفراز هذا الهورمون ولكن بعد مرحلة من الإحباطات والحزن، وهكذا..

وبعد التمعن في تجارب من حولي من كبار السن فقد وجدت أن أكثر الناس راحةً وإتزانا وتعدياً لهذه المراحل هم من وجدوا مصدرا لهذا الهورمون لم ينقطع منذ أن كانوا صغارا فلم يكن وقع التغير من مرحلة إلى أخرى كوقعه على غيرهم.
ولكي أكون أكثر دقة فسأذكر بعض الأسئلة وأقوم بالرد عليها:

س١: ما هي صفات هذا المصدر؟
هذا المصدر تستطيع أن تقوم به على أي حال كنتَ، مريضا أو صحيحا، سعيدا أو حزينا، لا يحتاج لمجهود بدني أو مصدر مالي أو صحبة.
س٢: لماذا؟
لأن الجسد يذبل ويضعف، فإذا تم ربط هذا المصدر بالحركة، مثل رياضة ما، أو سفر، أو أي شيء يحتاج مجهودا عضليا فعندما يضعف الجسد أو تقل الأموال أو تنعدم الصحبة والأهل بسبب الموت أو الغربة فسيحتل الحزن هذا القلب الذي لم يجد بديلا لهذا المصدر.
س٣: هل هذا نداء للعزلة وترك ملذات الحياة؟
بالطبع لا، ولكن إذا كان مصدر بهجتك في أمور "كلها" محسوسة فاعلم أنها لا تبقى، فالأكل طيب المذاق لن يقوى عليه جسدك عند تقدم العمر، والقهوة والشاي والسكر ...إلخ كل ذلك سيُمنع عنك تدريجيا للحفاظ على صحتك، وكلنا رأينا من يُبتلى بالإعتقال أو بالغربة للعمل أو الدراسة أو بموت عزيز كإبن وقد كان يمثل له كل حياته فأصبح وحيدا بعدها، ومن كان مداوما على الرياضة فتجد مفاصله مع الزمن لم تعد تعمل كما كانت وهكذا.
س٤: هل هذا نداء لمقاطعة ملذات الحياة طالما سنُحرم منها لا محالة؟
بالطبع لا، ولكن يجب علينا أن نأخذ رشفة من ملذات الحياة الدنيا مع رشفة أكبر قدرا من المصدر المتجدد الذي لا يذبل مع ذبول الإنسان فعندما ينقطع الأول نجد فورا المصدر الثاني بدون الدخول في مرحلة الصدمة والإحباط والحزن ثم البحث عن مصدر آخر بشكل مستمر.

وبعد التفكير فقد توصلت لثلاثة مصادر، الأول مصدر مستدام لا ينقطع والثاني مُسَكِّن للآلام، والثالث لمن استطاع إليه سبيلا.

- فما هو المصدر الأول المستدام الذي لا يذبل؟

-إنه القرآن، القرآن سماعا وتلاوة وحفظاً وصلاة وتنفلاً وطلب العلم الشرعي....وهذا نداء لي قبل من يقرأ هذه الكلمات، هذا طلب مني لنفسي قبل أن أطلبه لأحد غيري.

وبمنتهى الصراحة لقد وجدت أهل القرآن والعلم هما أكثر الناس إتزانا وراحة ولم أجدهم كغيرهم ممن وجد راحته في التدخين فداوم عليها حتى أهلكته بمرض القلب، وممن وجد راحته في الأكل فابتلي بالسمنة بسبب نقص معدل الهضم في منتصف الثلاثين عند النساء والأربعين عند الرجال فلم يستطع أن يوقف هذه العادة حتى ابتلي بالأمراض بسبب أنه لا يقاوم الطعام وهو مصدر سعادته....وأمثلة لا حصر لها ممن تشبثوا بمتع الحياة حتى أهلكتهم كمنظر النمل الذي يموت داخل العسل فلا هو اكتفى من العسل ولا هو أبقى على صحته وبقائه. عافانا الله وإياكم من أي عادة سيئة لا نفيق منها إلا على سرير المستشفى.

هذا نداء لي ولإخواني أن نستمد سعادتنا من القرآن والعلم الشرعي لأن كل متع الدنيا تزول وتترك الإنسان وحيدا مكسورا هذيلا إلا القرآن فتجد الرجل القعيد آنساً به والسيدة العجوز جالسة ببيتها مؤتنسة به...

والسؤال الآن: كيف المخرج؟
- تقنين هذه المتع والتحكم فيها ولا نجعلها هي ما تتحكم فينا ولنا في رمضان عبرة وفرصة، فيمكننا البداية من رمضان وبالأخص عند الإفطار. فلا نفرط ونسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك بعد إنقضاء الشهر.
- البدء بتعلم القرآن وأحكامه والعلم الشرعي بشكل تدرجي وغير مفرط، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
- الصبر على هذا الطريق حتى يأنس القلب بالقرآن ولا يكتفي إلا بالقرآن ولا يهدأ إلا بالقرآن ولا يخشع إلا بالقرآن.
- وأخيرا أوصي نفسي وإياكم بالوقوف على الآيات فإن كان أمرا أو نهيا فنأتمر وننتهي عند أوامره ونواهيه.

- المصدر الثاني (المُسَكِّن للآلام):

- جعل الحياة كلها لله، أغلب مشاكل أهل الأرض أنهم قاموا بعمل معروف لشخص أو عدة أشخاص أو مؤسسة ما أو أبناء ...إلخ ثم يجدوا أنفسهم وحيدين أو على أقل تقدير لم ينالوا التقدير المتوقع! والحل هو أن تفعل كل شيء لله ولا تتوقع أي شيء، كل حياتك لله، عملك، إنفاقك على نفسك ومن حولك، دراستك....إلخ...كل شيء، فإذا ذبل الجسد وجفا الناس وقل الخير فأنت تعلم أن كل هذا عند من لا تضيع عنده الودائع. فتسكن وتهدأ ولا تتحسر على ما مضى، فما مضى وذبل كان في سبيل الله وما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل.

- المصدر الثالث (لمن استطاع إليه سبيلا):

- العمل الخاص، إذا عرفتَ أن تفتح عملا خاصا، أي عمل تجد فيه استقلالك عن الوظيفة التي سوف تستغنى عنك عند عمر الستين فبادر بها وابدأ الآن ولو بشكل بسيط، ولو نظرت للتجار وأصحاب المهن المستقلة ستجدهم أكثر الناس انشغالا وعدم التحسر على الماضي والوقوف على سفاسف الأمور لأنهم كل يوم في شأن وتقلب وهذا التغير مفيد للعقل والقلب وإن ظهر عكس ذلك في البدايات، ولكن تجارب من حولنا خير دليل.

*ملحوظة: هذا نداء لي قبل من يقرأ هذا الكلام وليس معناه أني قد فعلت ما كتبتُه وأنصح به بل أحببت مشاركتكم الخاطرة لكي تعم الفائدة ونأتي بها ما استطعنا. وجزاكم الله خيرا.

Monday, May 7, 2018

عن أي حياة نتكلم؟

بسم الله الرحمن الرحيم،

منذ عدة شهور قابلت شخصين قالا لي هذه الجملة (الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة، فليعشها "صح") وحينها لم أجد رداً، ولكني لم أستسِغ الجملة ولم أحبها، ولم أستطع تركيبها مع هيئة من قالها (ملتح ومنتقبة)، ثم سألت نفسي هل فعلا الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة؟ فوجدت أن هذه الجملة إذا فُهمت خطأ (وهي غالبا بالفعل تُفهم خطأ) فسوف تُردي صاحبها والله أعلم.

وكانت إجابتي لنفسي كالتالي:

الإنسان يعيش ثلاث مرات أساسية، ومرات لا حصر لها خلال أول مرة. بمعنى أن الإنسان يعيش أول حياة وهي حياته الدنيا وهي أدنى أنواع الحيوات التي خلقها الله ولكنها بالفعل الأفضل عند الكافر مهما عانى فيها، ثم حياة البرزخ وهي حياته في القبر ببدايتها ونهايتها وما بينهما، ثم حياة الآخرة "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" وقد قال ابن كثير في تفسير الآية ( الحيوان: أي الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال له ولا انقضاء بل هي مستمرة أبد الآباد). وقصدت بأنه يعيش مرات لا حصر لها في أول حياة، أي أنه من لطف الله تعالى في هذه الدنيا أنه ما ينزل بلاء إلا مع لطف، وأنَّ بعد كل فاجعة يعتقد الإنسان فيها أنها قد أرْدَتْه يجد أن الله قد منَّ عليه بعدها بحياة أخرى كحياة المريض إذا ظن الهلاك ثم شُفي، وكتجربة عاطفية سيئة يعقبها تجربة ناجحة، وكطفل يولد بعد سنوات من الإنتظار فيشعر أبواه أنهم يبدآن حياة جديدة...إلخ

وقد يُعجب القارئ، هل لهذه المقولة العابرة كل هذا الإهتمام؟ ألم يقصد العامّي أنه يعيش مرة واحدة في الدنيا وبالتالي لا يريدها بائسة وبما لا يخالف شرع الله وبالتالي يكسب الدارين وانتهت المسألة؟ والحقيقة أنني ما فكرت في هذا الرد الذي ذكرته إلا بعد رؤية أشياء كثيرة جدا جعلتني أغير وجهة نظري ونظرتي عامة للحياة لنظرة أكثر عمقا.

أولا، ماذا نقول في رجل مثل نبي الله إبراهيم عليه السلام، وقد كان يعيش حياته مع أب كافر يعبد الأصنام، فأُلقي في النار ثم اعتزل قومه ثم تزوج السيدة سارة وهي غاية في الجمال والذكاء والدين والحكمة، حسب ما سمعت في درس أن نبي الله يوسف عليه السلام ورث جماله من جدته السيدة سارة، وقيل في الإسرائيليات أن فرعون كان يريد أن ينال منها وهي متزوجة إلا أن الله منعه ثم حُرمت الذرية حتى سن متأخر ومن شدة حبها لسيدنا إبراهيم -ومعرفة كم هو يحب أن تكون له ذرية- أهدت إليه الجارية التي أهداها لها فرعون وهي السيدة هاجر لكي يتزوجها وبعد سنتين تقريبا أنجبت له بالفعل سيدنا إسماعيل فتزداد الغيرة في قلب السيدة سارة حتى يأمره الله أن يأخذ زوجته وابنه الذي جاء بعد طول انتظار إلى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وهو يدعو في طريقه إلى العودة وهو الأواه المنيب (ربنا...ربنا ... ربنا....). ثم يشاء الله بعد أن يأست سارة من الإنجاب أن يرزقها بيعقوب! فبمنطقنا اليوم (لِم كل هذا العناء؟) ألم يعلم الله أنه سيرزقها بيعقوب فلمَ ابتُليت بهذا البلاء حتى عقرت؟ هل هذه تُعد حياة بميزان اليوم ؟ هل يحب أن يحيا أحدنا حياة شبه هذه ويكون عبدا شاكرا ويعتقد أنه قد ناله من الدنيا نصيبه كاملا غير منقوص؟ كما قال سيدنا إبراهيم بعد ذلك (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء) هو يحمد الله على نعمه وفضله بعد ما رأى من إبتلاءات عدة ولا يرى إلا النعم وأعظمها نعمة الإسلام. ما هو تعريف حياة سيدنا إبراهيم في عرفنا الحالي؟

وما تعريف حياة أم موسى عليهما السلام بعد أن تركت وليدها في اليم ثم لتعمل مرضعة بالأجر ثم بعد عامي الرضاعة أظنها لم تكن تزوره بعدها وإن حدث فمن المؤكد أنها كانت تزوره خلسة والله أعلم ولكن لو تناولت السينما في وقتنا هذا حياة هذه السيدة فستظهر أنها عاشت حياة بائسة جدا على أنها مرضعة ولا يعرفها ابنها وتنظر إليه من طرف خفي وهو يلعب في بيت فرعون ودمعتها على خدها ولكنَّ الله لم يقل ذلك لأن في الحقيقة أنها قُرَّت عينها ولم تحزن ... ولكن هل هذه تعد حياة بميزان اليوم ؟ هل يحب أحدنا أن يعيش هذه الحياة؟

وما رأيك في حياة نبيِّ الله يعقوب ويوسف عليهما السلام، وحسب أغلب الروايات فقد "أُلقـي يوسف فـي الـجبّ وهو ابن سبع عشرة, فغاب عن أبـيه ثمانـين سنة -حتى عميت عين أبيه من الحزن والبكاء-, ثم عاش بعدما جمع الله له شمله, ورأى تأويـل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة, فمات وهو ابن عشرين ومئة سنة"* وخلالها دخل السجن ظلما  بعد أن طُعن في أخلاقه. هل أحدنا يحب أن يعيش حياة نبي الله يعقوب أو يوسف؟ وهل يراها أحدنا أنها حياة؟ وهل هذه الحياة هي التي نحب أن نعيشها مرة واحدة؟

القصص لا تنتهي، والحقيقة أني ما كتبت هذه السطور لكي أبعث في النفوس التشاؤم وكره الحياة، ولكنّ الحقيقة أن هذه الحياة إبتلاء، في الرخاء ابتلاء وفي الشدة ابتلاء.

وإن كنا قد ألقينا نظرة على بعض الأمثلة القديمة فنلق نظرة على المعاصرين:

- فمنا من ابتلي بالسجن وهم الآن بين أربع جدران في غرف صغيرة جدا ورائحتها كريهة يدخلون الخلاء بمواعيد وليس عندهم تكييفات في الصيف أو دفايات في الشتاء ومنهم من دخل ووُلد ابن له بالخارج لا يربيه ولا يراه وهو يكبر، كل هؤلاء سُجنوا فقط من أجل قضية سياسية على أيدي قتلة، فهل هذه هي الحياة التي لا تعاش إلا مرة واحدة؟

-ومنا من إبتلي بموت أو استشهاد ابن أو ابنة ولم يعد يطيق أن يكمل هذه الحياة بدون فلذة كبده وقد ودعه وداعا مفاجئاً لا لقاء بعده في هذه الدنيا! هل هذه حياة نحب أن نعيشها؟

-ومنا من ابتلي بإبن معاق في مخه وقد ذَهَبْتُ منذ فترة في مركز لعلاج ضمور المخ ورأيت الأمهات وهن ينتظرن بالخارج وغيرهن يعشن حياة أخرى وليس لديهن نفس الإبتلاء ولكن منهن من ابتليت بابن عاق  أو فاشل أو متعاطٍ للمخدرات أو زوج سيء أو فقر...إلخ. والسوريون في ابتلاء لا حصر له والفلسطينيون أيضا...، فهل هذه حياة يحب المرء أن يعيشها وتُعد حياة في نظر المسلمين في يومنا هذا؟

الحقيقة أني أرى أننا يجب أن نعيد تقييم هذه الحياة ونعرف أنها دار ابتلاء وكلٌ منا مبتلى حسب طاقته وعِلْمِ الله في صبره، وكلٌ منا يجب أن يحمل مسئولية الباقي، فمن لم يُبتلى بأيٍ من هذه الإبتلائات السالف ذكرها يجب عليه أن يشكر الله أولا ثم يعطي وقتا أو عملا أو دعاءً لهؤلاء المبتلين ويعرف أنه سيموت ويُسأل عن صبره في الضراء وعن النعيم في السراء ثم بعد الموت تبدأ حياته الحقيقية والتي لا تغيير فيها وهي حصاد هذا الحياة بتقلباتها ببلاءاتها بعد النجاح بإذن الله في هذه الإبتلاءات، والتي عندها يقول بإذن الله (لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شقاء قط)... لأن وقتها سيرى حياته الحقيقية والتي كانت تستحق العناء من أجلها.

Thursday, May 3, 2018

وَسَارَ بِأَهْلِهِ..

بسم الله الرحمن الرحيم،

لأسباب عدة أُحب نبي الله موسى عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام،
فهو له في قلبي مكانة خاصة، من المحتمل أنه قد شغل هذه المكانة كونه قد مَرَّ على عدة مراحل في حياته وكان في طياتها الخوف، وأزعم أن هذا الخوف كان نتيجة التربية المختلطة غير المستقرة التي عاشها منذ أن كان رضيعا فهو لم يجد أمه بالشكل التلقائي الذي يمر به أي رضيع، بل كانت ترضعه أولا وهي خائفة، ثم وضعته في التابوت، ثم ألقته في اليم، ثم ألقاه اليم بالساحل حتى يقع في أيدي قوم فرعون إلى أن مس حبُّه قلبَ امرأةِ فرعون والتي قد حُرِمَت الذرية فألقى الله في قلبها محبته ثم بعد كل هذا لا يقبل أن يرضع من أي مرضعة حتى وجدته أخته فدلتهم على أمه حتى اللحظة الجميلة التي وصلت فيها أمه وقلبها يملأه الفرح لترضعه فيرضع ويسكت الرضيع بعد رحلة من البكاء والجوع... ولك أن تتخيل الرضيع والأم وهما في هذه الرحلة إلى هذه اللحظة.
ثم تخيل  حياته بين حنان امرأة فرعون وبين بطش فرعون والذي هَمَّ أن يقتله عدة مرات لولا أن حال الله بينه وبين ذلك.. ثم كبر موسى عليه السلام بين حنان المرأة المؤمنة الصالحة وبين بطش مدعي الإلوهية المتكبر لكي يتمتع بصفتين رقة القلب والقوة في آن واحد.. فهو عندما مر برجل من قوم فرعون يبطش برجل ضعيف من بني إسرائيل فقوته مع رقة قلبه جعلته يدافع عن الضعيف ولكنه خاف بعدها وترك المدينة (مصر) خائفا يترقب ساعيا إلى الشام..ولنا أن نتخيل رحلته وسط ظلام صحراء مصر أياما وأسابيع وهو خائف يترقب قوم فرعون الذين يأتمرون به ليقتلوه ولا يعلم في أي لحظة يجدوه وإلى أي مكان يذهب فقال هذه الكلمات (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)، حتى ساقه الله لبيت نبي الله شعيب أو الشيخ الصالح الذي طمأنه (أخيراً) بهذه الكلمات الشافية (لا تخف، نجوت من القوم الظالمين) فيتنفس الصعداء ويهدأ.... وتبدأ الرحلة.

ثماني إلى عشرة أعوام من العمل مع الرجل الصالح في وجود السكن (الزوجة) ولنا أن نتخيل الرجل الخائف والذي مما لا شك فيه أن السفر والغربة قد نالا من صحته شيئا ومن ملابسه ونفسيته وكان منعما في بيت فرعون، حتى مَنَّ الله عليه بالعمل والزوجة والنسب الصالح الرحيم الذي لا يشق عليه ويصبر عليه حتى إنتهاء مدة عمله، وكانت هذه السنوات بمثابة عملية تحول في شخصية نبي الله موسى، فهو الآن رب أسرة، ويعمل عملا يشبه الوظيفة في وقتنا الحالي، فهو ليس في نظام قمعي كنظام فرعون ولا هو في رفاهية بيت فرعون ولكن تجربة إنتقالية فيها رحمة مع مسئولية، التجربة التي يستهين بها غالبية الناس ولكنها الأصعب على الإطلاق في حياة أي رجل، الإدارة الناجحة للعمل والأسرة وتربية الأولاد.

ثم بعد إنتهاء مدة العمل المتفق عليها، دخل نبي الله موسى مرحلة جديدة والتي جعلته وقتها يتخذ قرارا جريئا، ولم يكن ليدخل في هذه المرحلة إلا بعد هذه الآية (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ... وَسَارَ بِأَهْلِهِ..) ولنا وقفة هنا عند كلمة (وسار بأهله) وعندما نراجع تفسير ابن كثير نجد الآتي (وسار بأهله " قالوا كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة).... وهنا يأتي السؤال المنطقي: لِمَ تخاطر يا موسى؟ لِمَ تأخذ أهلك معك في هذا الطقس وهذا الطريق؟ هل هذه المخاطرة أفضل من عملك في الشام ؟ أتغامر بمجهود عشرة سنوات (وفي قول آخر أنه  قضى عشر سنين وبعدها عشرا أخر) فهل تضيع مجهود عشرين عاما من العمل والإستقرار من أجل رحلة إلى مصر؟ هل اشتقت إلى أمك؟ هل اشتقت إلى أمك الثانية (إمرأة فرعون)؟ هل اشتقت لأصحابك من بني إسرائيل وذكريات طفولتك؟ هل يستحق الأمر لكل هذه المخاطرة؟ تخاطر أيضا بما لديك من الغنم وهو مصدر رزقك؟ أتدري ما الذي تفعله بنفسك وأهلك وما معك من رأس مال؟
إنه الشجن، والإشتياق، وما يجده المرء فيما يسمى بالوجدان، طبقات من الذكريات المتداخلة التي تُنحت في قلبه تجعله يفعل ما لا يدركه مَن حوله وتجعله يبحث عن ما بداخله والذي مر عليه عشرة أو عشرون عاما!
سار بأهله وأخذ المخاطرة، وقد مَنَّ الله عليه بإبنة رجل صالح والتي من المؤكد قد دعمته ولم تخذله ولم تقل له إذهب بمفردك، أو ابق هنا معنا حيث رعي الغنم واستقرار الحياة وتربية الأولاد في البيئة التي نشأوا فيها! فكانت نِعم السند في هذه الرحلة، وهذه من أولى صفات الزوجة الصالحة، أن تكون سكناً وسنداً.

ثم....(فآنس من جانب الطور نارا).... وبدأت الرحلة... رحلة النبوة.

ولكن لم ينتهي الخوف في قصة نبينا موسى، فهو بعد كل هذا كان يخاف أن يذهب لفرعون وقومه فيكذبوه، ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه فيتلعثم فأراد أن يستعين بأخيه هارون، ويخاف أن يقتلوه لذنب قتل الخطأ الذي فعله في الماضي، ثم خاف أن يفرط فرعون عليه وبصحبته أخوه هارون، ثم أوجس في نفسه خيفة عندما خُيِّلَ إليه حبال السحرة وعصيهم من سحرهم كأنها تسعى، ومع كل مرحلة خوف كان يأتي الدعم من رب السماوات والأرض على أشكال عدة:

- اليقين: "قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون"
- الدعاء: رب اشرح لي صدري .. ويسر لي أمري .. واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
- الرفيق: واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي
- الذِكر.. كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا..
- ثم يأتي الدعم الإلهي حينما أوجس في نفسه خيفة ..لا تخف إنك أنت الأعلى.

- ثم في آخر مشهد وبعد كل هذه الرحلة من الخوف والإطمئنان وكان من المنطقي أن المواجهة الكبرى تؤدي إلى الخوف الأكبر، ولكن حدثت المفاجأة، أنه لم يخف، وكيف يخاف وقد مشى رحلة كان أنيسه فيها هو الله، وقد رأى بعينيه لطف ربه في كل مرة ضاقت عليه الأرض ثم وجد الفرج والمخرج والسكن والأمان... فقال "كلا إن معي ربي سيهدين".. فكان الله تعالى عند ظن عبده به.

ويمكننا أن نتعلم من هذه القصة حتى هذا المشهد بعض النقاط:

أولا: أن تترك الأمور تجري بمقادير الله، فلا تعلم وأنت خائف لا تعلم أين تذهب أي طريق سيكون فيه الخير، فقط أحسن الظن بربك وتوكل على الله (عسى أن يهديني ربي سواء السبيل).
ثانيا: أن تختار زوجة صالحة من نسب صالح تعينك على نوائب الدهر حيناً وعلى قراراتك الجريئة حيناً آخر فتتحمل معك ولا تحملك فوق طاقتك، تشعر بما تشعر به وتمشي معك الطريق الذي تؤمن به ولا تبالي بالمعوقات، فإذا عزمت فتوكل على الله ولا تلتفت.
ثالثا: أن لا تهرب من أحلامك ووجدانك بل امضِ قدماً لكي لا تعيش حربا داخلية، واستخر وتوكل على الله (وسِرْ) بأهلك كي لا تكون وحيداً، فالطريق شاقٌ وطويلٌ.
رابعا: تَمَهَّل، فربما تحتاج عشرة أعوام أو عشرين كي يكتمل نضوجك بين إدارة بيت وعمل وخبرة حياة حتى تتخذ الخطوة الجريئة، فهي تحتاج لخبرة حياتية قبل أي شيء.
خامسا: أطلب العون والمدد من ربك، أطلب منه المدد البشري والمدد النفسي والبدني وقِرّ له بضعفك، أطلب منه كل شيء، اجعل الدعاء منهج حياتك.
سادسا: أذكر الله وسبحه بالعشي والإبكار ... إعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
سابعا: يأتي لك الدعم الإلهي بعدما تستنفد كل الأسباب فتعرف أنك بعد كل هذا ليس لك إلا الله وأنك لست إلا عبداً ضعيفاً لا يملك لنفسه نفعا ولا ضراً، ولكن يأتي بتمام الثقة في الله وحسن الظن في الله (كلا، إن معي ربي سيهدين)... إذا وصلت لتمام الثقة جائك المدد على ضعف حيلتك ونفاد أسباب الدنيا.

Wednesday, April 25, 2018

"وأخرى تُحبونها"

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بسم الله الرحمن الرحيم..

كتبت منذ يومين على موقع تويتر أني قد قمت بعمل تمرين بسيط وهو أني سألت نفسي  بعد التمعن في الثلاثة عشر عاما الماضية  (ما هي الأعوام-الفترات السعيدة والأعوام الحزينة؟ ما هي الفترات التي زدت فيها وما هي الأعوام التي نقصت فيها) وكانت الإجابة أني في الأعوام الصعبة والتي كنت أكافح فيها سواء كفاحا ميدانيا أو عمليا أو أكاديميا أو حياتيا فكانت أعواما ثرية وسعيدة بمعنى أنها حقا هي الأعوام التي شكلت شخصيتي ووجداني أما الأعوام التي كنت أعيش فيها أتقاضى أجرا ثابتا آخر كل شهر والشهر يتلوه الشهر والأيام تمر فعلى الرغم من أنها تظهر وكأنها الأفضل بسبب وجود عامل الأمان والراحة إلا أني (وبمنتهى التجرد والإنصاف) لم أجدها الأعوام السعيدة بل كانت مرتبطة دائما بخيبات الأمل (بالأخص في العمل) بل وخرجت منها عدة مرات بارتفاع الضغط بسبب مواقف في العمل مع مديرين غير كفؤ ومرة بالقولون العصبي وأنا لازلت في المنتصف الأول من العشرينيات بسبب العمل المتواصل حتى منتصف الليل وأحيانا كنا نعمل أيام الأجازة ومرة طُلب منا أن نأتي في عيد الفطر بعد الصلاة وعندما أظهرنا اعتراضاً كان رد الفعل عنيفا ونحمد الله أننا لم نحضر العيد ولكن ما أعلمه حقا أنه لو كانت الإدارة قد قررت ذلك كنا سنأتي جميعا خاضعين! مع العلم أن هذا العمل كان الدفع فيه بالدولار وينزل المرتب يوم ٢٦ في الشهر قبل غالبية مرتبات الشعب المصري. ولكن كانت أياما صعبة نفسيا وصحيا وكنت منفصلا اجتماعيا ومائعا دينيا بسبب جو الشركة.

لكني تفاجأت عندما كتبت هذه الملحوظة على تويتر أن بعض الأصدقاء قد استاء وأحدهم سخر وهم لا يعرفون شيئا عن ما خلّفته هذه الفترة وما الذي أقوم به في حياتي بعيدا عن السلك الوظيفي التقليدي الذي بكل تأكيد تمنيته يوما ولكن لم أجد ضالتي فيه، لا راحة نفسية ولا سلامة صحية ولا حتى حياة موظفين الحكومة.
ولكن كان يمكن لإخواني بقليل من الإستفهام أو قليل من (تركه ما لا يعنيه) أن يخففوا من وطأة الحياة على العبد لله أفضل من السخرية من تجربته والتي لم ينتهجها هو فقط بل انتهجها غالبية أبناء تخصصه من الأولين والذين درسناهم في الكلية وهم من يشكلون ثقافة القرنين العشرين والواحد والعشرين بعمارتهم والتي إذا سافرت إلى الخارج فحتما ستمر في أو بجانب مبنى لهم ويكفينا في الوطن العربي أن من يشكل لنا عمارتنا الآن هم من غير بني جلدتنا، ومتحف القاهرة ومكتبة الإسكندرية ومدينة العلوم كلها مشاريع عالمية في مصر وقد تم تصميمها بعقول أجنبية.

فهل سأكون مثلهم يوما ما؟ على الأقل أنا أحاول قدر إمكانياتي وقدر اجتهادي وأستخير وأستشير ولا أضيع فرصاً ولم أتكبر يوما على وظيفة ولكنها الأقدار والتي لا يفهمها الكثير إلا إذا تنازلوا وسألوني بدلا من السخرية التي تجري في دم الشعب المصري.

سؤال آخر يُسأل بسخرية: هل رجوعي إلى مصر بعد الماجيستير كان خطأً؟ يقيني أنه لم يكن خطأً ولأسباب كثيرة ليس المجال لسردها هنا..

أريد أن أعطي مثالا بسيطا على ما أفعله بدون دخول في تفاصيل، كلنا يتذكر مصر في عهد مبارك، كانت بالفعل أفضل من الآن، فهل أخطأنا عندما قمنا بالثورة ؟ من يدعي أننا أخطأنا فهو بالفعل مخطئ، وليس معنى أننا لم نصل أننا نسير في الإتجاه الخاطئ وحتى لو متنا على الطريق فيكفينا ويعذرنا أمام الله تعالى طالما أخلصنا النية وحددنا الهدف وأحسنّا التخطيط.

الكتابة في هذا التوقيت هو أمر محرج جدا لأني بمنتهى البساطة مُعرض للفشل في أي لحظة، ولذلك كان من الأفضل الإنتظار حتى رؤية النتيجة ثم أتكلم، ولكن أنا هنا لا أدافع عن نفسي بل عن طريقة تفكير وإيمان ويقين وعمل من أجل هدف يقابل به الإنسان ربه حتى وإن مات ولم يحصد وهو مثل نزول أحدنا الميادين وهو مؤمن بالفكرة ومتوكل على الله ولا يبالي بالدماء والمعاناة ويسأل الله السلامة والمعافاة والنصر في آن واحد.

"وأخرى تُحبونها"