بسم الله الرحمن الرحيم،
منذ عدة شهور قابلت شخصين قالا لي هذه الجملة (الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة، فليعشها "صح") وحينها لم أجد رداً، ولكني لم أستسِغ الجملة ولم أحبها، ولم أستطع تركيبها مع هيئة من قالها (ملتح ومنتقبة)، ثم سألت نفسي هل فعلا الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة؟ فوجدت أن هذه الجملة إذا فُهمت خطأ (وهي غالبا بالفعل تُفهم خطأ) فسوف تُردي صاحبها والله أعلم.
وكانت إجابتي لنفسي كالتالي:
الإنسان يعيش ثلاث مرات أساسية، ومرات لا حصر لها خلال أول مرة. بمعنى أن الإنسان يعيش أول حياة وهي حياته الدنيا وهي أدنى أنواع الحيوات التي خلقها الله ولكنها بالفعل الأفضل عند الكافر مهما عانى فيها، ثم حياة البرزخ وهي حياته في القبر ببدايتها ونهايتها وما بينهما، ثم حياة الآخرة "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" وقد قال ابن كثير في تفسير الآية ( الحيوان: أي الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال له ولا انقضاء بل هي مستمرة أبد الآباد). وقصدت بأنه يعيش مرات لا حصر لها في أول حياة، أي أنه من لطف الله تعالى في هذه الدنيا أنه ما ينزل بلاء إلا مع لطف، وأنَّ بعد كل فاجعة يعتقد الإنسان فيها أنها قد أرْدَتْه يجد أن الله قد منَّ عليه بعدها بحياة أخرى كحياة المريض إذا ظن الهلاك ثم شُفي، وكتجربة عاطفية سيئة يعقبها تجربة ناجحة، وكطفل يولد بعد سنوات من الإنتظار فيشعر أبواه أنهم يبدآن حياة جديدة...إلخ
وقد يُعجب القارئ، هل لهذه المقولة العابرة كل هذا الإهتمام؟ ألم يقصد العامّي أنه يعيش مرة واحدة في الدنيا وبالتالي لا يريدها بائسة وبما لا يخالف شرع الله وبالتالي يكسب الدارين وانتهت المسألة؟ والحقيقة أنني ما فكرت في هذا الرد الذي ذكرته إلا بعد رؤية أشياء كثيرة جدا جعلتني أغير وجهة نظري ونظرتي عامة للحياة لنظرة أكثر عمقا.
أولا، ماذا نقول في رجل مثل نبي الله إبراهيم عليه السلام، وقد كان يعيش حياته مع أب كافر يعبد الأصنام، فأُلقي في النار ثم اعتزل قومه ثم تزوج السيدة سارة وهي غاية في الجمال والذكاء والدين والحكمة، حسب ما سمعت في درس أن نبي الله يوسف عليه السلام ورث جماله من جدته السيدة سارة، وقيل في الإسرائيليات أن فرعون كان يريد أن ينال منها وهي متزوجة إلا أن الله منعه ثم حُرمت الذرية حتى سن متأخر ومن شدة حبها لسيدنا إبراهيم -ومعرفة كم هو يحب أن تكون له ذرية- أهدت إليه الجارية التي أهداها لها فرعون وهي السيدة هاجر لكي يتزوجها وبعد سنتين تقريبا أنجبت له بالفعل سيدنا إسماعيل فتزداد الغيرة في قلب السيدة سارة حتى يأمره الله أن يأخذ زوجته وابنه الذي جاء بعد طول انتظار إلى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وهو يدعو في طريقه إلى العودة وهو الأواه المنيب (ربنا...ربنا ... ربنا....). ثم يشاء الله بعد أن يأست سارة من الإنجاب أن يرزقها بيعقوب! فبمنطقنا اليوم (لِم كل هذا العناء؟) ألم يعلم الله أنه سيرزقها بيعقوب فلمَ ابتُليت بهذا البلاء حتى عقرت؟ هل هذه تُعد حياة بميزان اليوم ؟ هل يحب أن يحيا أحدنا حياة شبه هذه ويكون عبدا شاكرا ويعتقد أنه قد ناله من الدنيا نصيبه كاملا غير منقوص؟ كما قال سيدنا إبراهيم بعد ذلك (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء) هو يحمد الله على نعمه وفضله بعد ما رأى من إبتلاءات عدة ولا يرى إلا النعم وأعظمها نعمة الإسلام. ما هو تعريف حياة سيدنا إبراهيم في عرفنا الحالي؟
وما تعريف حياة أم موسى عليهما السلام بعد أن تركت وليدها في اليم ثم لتعمل مرضعة بالأجر ثم بعد عامي الرضاعة أظنها لم تكن تزوره بعدها وإن حدث فمن المؤكد أنها كانت تزوره خلسة والله أعلم ولكن لو تناولت السينما في وقتنا هذا حياة هذه السيدة فستظهر أنها عاشت حياة بائسة جدا على أنها مرضعة ولا يعرفها ابنها وتنظر إليه من طرف خفي وهو يلعب في بيت فرعون ودمعتها على خدها ولكنَّ الله لم يقل ذلك لأن في الحقيقة أنها قُرَّت عينها ولم تحزن ... ولكن هل هذه تعد حياة بميزان اليوم ؟ هل يحب أحدنا أن يعيش هذه الحياة؟
وما رأيك في حياة نبيِّ الله يعقوب ويوسف عليهما السلام، وحسب أغلب الروايات فقد "أُلقـي يوسف فـي الـجبّ وهو ابن سبع عشرة, فغاب عن أبـيه ثمانـين سنة -حتى عميت عين أبيه من الحزن والبكاء-, ثم عاش بعدما جمع الله له شمله, ورأى تأويـل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة, فمات وهو ابن عشرين ومئة سنة"* وخلالها دخل السجن ظلما بعد أن طُعن في أخلاقه. هل أحدنا يحب أن يعيش حياة نبي الله يعقوب أو يوسف؟ وهل يراها أحدنا أنها حياة؟ وهل هذه الحياة هي التي نحب أن نعيشها مرة واحدة؟
القصص لا تنتهي، والحقيقة أني ما كتبت هذه السطور لكي أبعث في النفوس التشاؤم وكره الحياة، ولكنّ الحقيقة أن هذه الحياة إبتلاء، في الرخاء ابتلاء وفي الشدة ابتلاء.
وإن كنا قد ألقينا نظرة على بعض الأمثلة القديمة فنلق نظرة على المعاصرين:
- فمنا من ابتلي بالسجن وهم الآن بين أربع جدران في غرف صغيرة جدا ورائحتها كريهة يدخلون الخلاء بمواعيد وليس عندهم تكييفات في الصيف أو دفايات في الشتاء ومنهم من دخل ووُلد ابن له بالخارج لا يربيه ولا يراه وهو يكبر، كل هؤلاء سُجنوا فقط من أجل قضية سياسية على أيدي قتلة، فهل هذه هي الحياة التي لا تعاش إلا مرة واحدة؟
-ومنا من إبتلي بموت أو استشهاد ابن أو ابنة ولم يعد يطيق أن يكمل هذه الحياة بدون فلذة كبده وقد ودعه وداعا مفاجئاً لا لقاء بعده في هذه الدنيا! هل هذه حياة نحب أن نعيشها؟
-ومنا من ابتلي بإبن معاق في مخه وقد ذَهَبْتُ منذ فترة في مركز لعلاج ضمور المخ ورأيت الأمهات وهن ينتظرن بالخارج وغيرهن يعشن حياة أخرى وليس لديهن نفس الإبتلاء ولكن منهن من ابتليت بابن عاق أو فاشل أو متعاطٍ للمخدرات أو زوج سيء أو فقر...إلخ. والسوريون في ابتلاء لا حصر له والفلسطينيون أيضا...، فهل هذه حياة يحب المرء أن يعيشها وتُعد حياة في نظر المسلمين في يومنا هذا؟
وإن كنا قد ألقينا نظرة على بعض الأمثلة القديمة فنلق نظرة على المعاصرين:
- فمنا من ابتلي بالسجن وهم الآن بين أربع جدران في غرف صغيرة جدا ورائحتها كريهة يدخلون الخلاء بمواعيد وليس عندهم تكييفات في الصيف أو دفايات في الشتاء ومنهم من دخل ووُلد ابن له بالخارج لا يربيه ولا يراه وهو يكبر، كل هؤلاء سُجنوا فقط من أجل قضية سياسية على أيدي قتلة، فهل هذه هي الحياة التي لا تعاش إلا مرة واحدة؟
-ومنا من إبتلي بموت أو استشهاد ابن أو ابنة ولم يعد يطيق أن يكمل هذه الحياة بدون فلذة كبده وقد ودعه وداعا مفاجئاً لا لقاء بعده في هذه الدنيا! هل هذه حياة نحب أن نعيشها؟
-ومنا من ابتلي بإبن معاق في مخه وقد ذَهَبْتُ منذ فترة في مركز لعلاج ضمور المخ ورأيت الأمهات وهن ينتظرن بالخارج وغيرهن يعشن حياة أخرى وليس لديهن نفس الإبتلاء ولكن منهن من ابتليت بابن عاق أو فاشل أو متعاطٍ للمخدرات أو زوج سيء أو فقر...إلخ. والسوريون في ابتلاء لا حصر له والفلسطينيون أيضا...، فهل هذه حياة يحب المرء أن يعيشها وتُعد حياة في نظر المسلمين في يومنا هذا؟
الحقيقة أني أرى أننا يجب أن نعيد تقييم هذه الحياة ونعرف أنها دار ابتلاء وكلٌ منا مبتلى حسب طاقته وعِلْمِ الله في صبره، وكلٌ منا يجب أن يحمل مسئولية الباقي، فمن لم يُبتلى بأيٍ من هذه الإبتلائات السالف ذكرها يجب عليه أن يشكر الله أولا ثم يعطي وقتا أو عملا أو دعاءً لهؤلاء المبتلين ويعرف أنه سيموت ويُسأل عن صبره في الضراء وعن النعيم في السراء ثم بعد الموت تبدأ حياته الحقيقية والتي لا تغيير فيها وهي حصاد هذا الحياة بتقلباتها ببلاءاتها بعد النجاح بإذن الله في هذه الإبتلاءات، والتي عندها يقول بإذن الله (لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شقاء قط)... لأن وقتها سيرى حياته الحقيقية والتي كانت تستحق العناء من أجلها.
No comments:
Post a Comment