Wednesday, May 23, 2018

هورمون السعادة .. وتجنب المواجهة المتكررة!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بسم الله الرحمن الرحيم،

منذ فترة وأنا ألاحظ أمراً، أن غالبية من حولي ممن يوصفون بكبار السن لديهم بعض المشاكل، أولها أنهم لم يكونوا يعلمون أنهم من فئة كبار السن! فقد كانوا متمسكين بالشباب وعاداتهم في الشباب إلى مرحلة متأخرة، حتى صُدموا بهذه الحقيقة. وهذه حقيقة تحدث للإنسان كل عشرة أعوام ابتداء من سن الثلاثين، فعندما صل إلى الثلاثين يفاجأ أنه لم يعد عشرينياً وأنه قد ودع هذه المرحلة إلى الأبد ولكنه يشعر بقوة وإستقلالية الثلاثين وأن أعمار أهل الجنة في هذا العمر، فما يلبث أن يدخل في الأربعين، ويزيد من سرعة هذه المرحلة الإلتزامات المادية التي لم تكن عنده في العشرينيات، فما يلبث أن يستقر ولو شيئا قليلا فيجد نفسه قد دخل في الأربعين، فيصدم الصدمة الثانية أنه لم يعد ثلاثينيا بعد الآن ولكنه يُصَبر نفسه أن الأربعين هو سن الحكمة والنبوة وسن الترشح للرئاسة ..إلخ... فيدخل الخمسين ويجد تغيرات حقيقية في جسده أكثر من اي فترة أخرى مع بعض الأمراض التي لابد منها وأنه قد مر من حياته خمسون عاما كاملا بلا رجعة، وأنه حتى قد تعدى مرحلتي عمر أهل الجنة وعمر النبوة والحكمة... ولكنه لايزال لم يصل للعجز.. فعلى الأقل لديه استقرار مادي وأسري (غالبا) ويستطيع أن يرمم بعض ما خسره نتيجة عوامل الزمن مثل أن يذهب إلى الچيم وأن يأخذ بعض الڤيتامينات أو حتى أن يقوم ببعض العمليات ولكن ما يقوم به من مجهود في هذه المرحلة ليصل لمرحلة متواضعة يكون غالبا أضعاف ما كان يقوم به خلال العقدين الرابع والخامس، ثم يبدأ العد التنازلي حتى الستين (سن التقاعد من الوظيفة، وما أدراك ما هذه المرحلة وما تفعلها بالرجل) ثم السبعين..وهكذا.

إذاً لدينا في هذه القصة المتكررة مشكلتان واحدة مرئية وأخرى غير مرئية:
الأولى (المرئية) هي مرحلة الصدمة عند آخر كل مرحلة ومقاومتها حتى قبولها والتكيف عليها وإيجاد روتين وحياة جديدة مناسبة للإمكانيات الجديدة.
الثانية: ما يعانيه الشخص حتى يتكيف على بقايا المرحلة الماضية ومدى تشبثه بما كان يجلب له السعادة والثقة بالنفس في المرحلة الماضية واستبداله بأشياء جديدة وعادات جديدة.

فإذا أردنا أن نجتهد لنعلم السبب وراء كل هذه التقلبات فسنجد أنها تتلخص في كلمة واحدة (دوپامين) أو ما يسمى بهورمون السعادة.

ببساطة ما يتم أن الإنسان يكون مستغرقا في عدة أمور، هذه الأمور هي ما تجعله سعيداأو بمعنى آخر هي ما تجعل مخه يفرز هذه المادة والتي تجعله يشعر بالسعادة وهو لا يعلم لأنه تكون روتينا حياتيا فما يلبث أن يفقدها فيُصدم ويحبط ويحزن حتى يجد بديلا لإفراز هذا الهورمون ولكن بعد مرحلة من الإحباطات والحزن، وهكذا..

وبعد التمعن في تجارب من حولي من كبار السن فقد وجدت أن أكثر الناس راحةً وإتزانا وتعدياً لهذه المراحل هم من وجدوا مصدرا لهذا الهورمون لم ينقطع منذ أن كانوا صغارا فلم يكن وقع التغير من مرحلة إلى أخرى كوقعه على غيرهم.
ولكي أكون أكثر دقة فسأذكر بعض الأسئلة وأقوم بالرد عليها:

س١: ما هي صفات هذا المصدر؟
هذا المصدر تستطيع أن تقوم به على أي حال كنتَ، مريضا أو صحيحا، سعيدا أو حزينا، لا يحتاج لمجهود بدني أو مصدر مالي أو صحبة.
س٢: لماذا؟
لأن الجسد يذبل ويضعف، فإذا تم ربط هذا المصدر بالحركة، مثل رياضة ما، أو سفر، أو أي شيء يحتاج مجهودا عضليا فعندما يضعف الجسد أو تقل الأموال أو تنعدم الصحبة والأهل بسبب الموت أو الغربة فسيحتل الحزن هذا القلب الذي لم يجد بديلا لهذا المصدر.
س٣: هل هذا نداء للعزلة وترك ملذات الحياة؟
بالطبع لا، ولكن إذا كان مصدر بهجتك في أمور "كلها" محسوسة فاعلم أنها لا تبقى، فالأكل طيب المذاق لن يقوى عليه جسدك عند تقدم العمر، والقهوة والشاي والسكر ...إلخ كل ذلك سيُمنع عنك تدريجيا للحفاظ على صحتك، وكلنا رأينا من يُبتلى بالإعتقال أو بالغربة للعمل أو الدراسة أو بموت عزيز كإبن وقد كان يمثل له كل حياته فأصبح وحيدا بعدها، ومن كان مداوما على الرياضة فتجد مفاصله مع الزمن لم تعد تعمل كما كانت وهكذا.
س٤: هل هذا نداء لمقاطعة ملذات الحياة طالما سنُحرم منها لا محالة؟
بالطبع لا، ولكن يجب علينا أن نأخذ رشفة من ملذات الحياة الدنيا مع رشفة أكبر قدرا من المصدر المتجدد الذي لا يذبل مع ذبول الإنسان فعندما ينقطع الأول نجد فورا المصدر الثاني بدون الدخول في مرحلة الصدمة والإحباط والحزن ثم البحث عن مصدر آخر بشكل مستمر.

وبعد التفكير فقد توصلت لثلاثة مصادر، الأول مصدر مستدام لا ينقطع والثاني مُسَكِّن للآلام، والثالث لمن استطاع إليه سبيلا.

- فما هو المصدر الأول المستدام الذي لا يذبل؟

-إنه القرآن، القرآن سماعا وتلاوة وحفظاً وصلاة وتنفلاً وطلب العلم الشرعي....وهذا نداء لي قبل من يقرأ هذه الكلمات، هذا طلب مني لنفسي قبل أن أطلبه لأحد غيري.

وبمنتهى الصراحة لقد وجدت أهل القرآن والعلم هما أكثر الناس إتزانا وراحة ولم أجدهم كغيرهم ممن وجد راحته في التدخين فداوم عليها حتى أهلكته بمرض القلب، وممن وجد راحته في الأكل فابتلي بالسمنة بسبب نقص معدل الهضم في منتصف الثلاثين عند النساء والأربعين عند الرجال فلم يستطع أن يوقف هذه العادة حتى ابتلي بالأمراض بسبب أنه لا يقاوم الطعام وهو مصدر سعادته....وأمثلة لا حصر لها ممن تشبثوا بمتع الحياة حتى أهلكتهم كمنظر النمل الذي يموت داخل العسل فلا هو اكتفى من العسل ولا هو أبقى على صحته وبقائه. عافانا الله وإياكم من أي عادة سيئة لا نفيق منها إلا على سرير المستشفى.

هذا نداء لي ولإخواني أن نستمد سعادتنا من القرآن والعلم الشرعي لأن كل متع الدنيا تزول وتترك الإنسان وحيدا مكسورا هذيلا إلا القرآن فتجد الرجل القعيد آنساً به والسيدة العجوز جالسة ببيتها مؤتنسة به...

والسؤال الآن: كيف المخرج؟
- تقنين هذه المتع والتحكم فيها ولا نجعلها هي ما تتحكم فينا ولنا في رمضان عبرة وفرصة، فيمكننا البداية من رمضان وبالأخص عند الإفطار. فلا نفرط ونسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك بعد إنقضاء الشهر.
- البدء بتعلم القرآن وأحكامه والعلم الشرعي بشكل تدرجي وغير مفرط، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
- الصبر على هذا الطريق حتى يأنس القلب بالقرآن ولا يكتفي إلا بالقرآن ولا يهدأ إلا بالقرآن ولا يخشع إلا بالقرآن.
- وأخيرا أوصي نفسي وإياكم بالوقوف على الآيات فإن كان أمرا أو نهيا فنأتمر وننتهي عند أوامره ونواهيه.

- المصدر الثاني (المُسَكِّن للآلام):

- جعل الحياة كلها لله، أغلب مشاكل أهل الأرض أنهم قاموا بعمل معروف لشخص أو عدة أشخاص أو مؤسسة ما أو أبناء ...إلخ ثم يجدوا أنفسهم وحيدين أو على أقل تقدير لم ينالوا التقدير المتوقع! والحل هو أن تفعل كل شيء لله ولا تتوقع أي شيء، كل حياتك لله، عملك، إنفاقك على نفسك ومن حولك، دراستك....إلخ...كل شيء، فإذا ذبل الجسد وجفا الناس وقل الخير فأنت تعلم أن كل هذا عند من لا تضيع عنده الودائع. فتسكن وتهدأ ولا تتحسر على ما مضى، فما مضى وذبل كان في سبيل الله وما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل.

- المصدر الثالث (لمن استطاع إليه سبيلا):

- العمل الخاص، إذا عرفتَ أن تفتح عملا خاصا، أي عمل تجد فيه استقلالك عن الوظيفة التي سوف تستغنى عنك عند عمر الستين فبادر بها وابدأ الآن ولو بشكل بسيط، ولو نظرت للتجار وأصحاب المهن المستقلة ستجدهم أكثر الناس انشغالا وعدم التحسر على الماضي والوقوف على سفاسف الأمور لأنهم كل يوم في شأن وتقلب وهذا التغير مفيد للعقل والقلب وإن ظهر عكس ذلك في البدايات، ولكن تجارب من حولنا خير دليل.

*ملحوظة: هذا نداء لي قبل من يقرأ هذا الكلام وليس معناه أني قد فعلت ما كتبتُه وأنصح به بل أحببت مشاركتكم الخاطرة لكي تعم الفائدة ونأتي بها ما استطعنا. وجزاكم الله خيرا.

Monday, May 7, 2018

عن أي حياة نتكلم؟

بسم الله الرحمن الرحيم،

منذ عدة شهور قابلت شخصين قالا لي هذه الجملة (الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة، فليعشها "صح") وحينها لم أجد رداً، ولكني لم أستسِغ الجملة ولم أحبها، ولم أستطع تركيبها مع هيئة من قالها (ملتح ومنتقبة)، ثم سألت نفسي هل فعلا الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة؟ فوجدت أن هذه الجملة إذا فُهمت خطأ (وهي غالبا بالفعل تُفهم خطأ) فسوف تُردي صاحبها والله أعلم.

وكانت إجابتي لنفسي كالتالي:

الإنسان يعيش ثلاث مرات أساسية، ومرات لا حصر لها خلال أول مرة. بمعنى أن الإنسان يعيش أول حياة وهي حياته الدنيا وهي أدنى أنواع الحيوات التي خلقها الله ولكنها بالفعل الأفضل عند الكافر مهما عانى فيها، ثم حياة البرزخ وهي حياته في القبر ببدايتها ونهايتها وما بينهما، ثم حياة الآخرة "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" وقد قال ابن كثير في تفسير الآية ( الحيوان: أي الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال له ولا انقضاء بل هي مستمرة أبد الآباد). وقصدت بأنه يعيش مرات لا حصر لها في أول حياة، أي أنه من لطف الله تعالى في هذه الدنيا أنه ما ينزل بلاء إلا مع لطف، وأنَّ بعد كل فاجعة يعتقد الإنسان فيها أنها قد أرْدَتْه يجد أن الله قد منَّ عليه بعدها بحياة أخرى كحياة المريض إذا ظن الهلاك ثم شُفي، وكتجربة عاطفية سيئة يعقبها تجربة ناجحة، وكطفل يولد بعد سنوات من الإنتظار فيشعر أبواه أنهم يبدآن حياة جديدة...إلخ

وقد يُعجب القارئ، هل لهذه المقولة العابرة كل هذا الإهتمام؟ ألم يقصد العامّي أنه يعيش مرة واحدة في الدنيا وبالتالي لا يريدها بائسة وبما لا يخالف شرع الله وبالتالي يكسب الدارين وانتهت المسألة؟ والحقيقة أنني ما فكرت في هذا الرد الذي ذكرته إلا بعد رؤية أشياء كثيرة جدا جعلتني أغير وجهة نظري ونظرتي عامة للحياة لنظرة أكثر عمقا.

أولا، ماذا نقول في رجل مثل نبي الله إبراهيم عليه السلام، وقد كان يعيش حياته مع أب كافر يعبد الأصنام، فأُلقي في النار ثم اعتزل قومه ثم تزوج السيدة سارة وهي غاية في الجمال والذكاء والدين والحكمة، حسب ما سمعت في درس أن نبي الله يوسف عليه السلام ورث جماله من جدته السيدة سارة، وقيل في الإسرائيليات أن فرعون كان يريد أن ينال منها وهي متزوجة إلا أن الله منعه ثم حُرمت الذرية حتى سن متأخر ومن شدة حبها لسيدنا إبراهيم -ومعرفة كم هو يحب أن تكون له ذرية- أهدت إليه الجارية التي أهداها لها فرعون وهي السيدة هاجر لكي يتزوجها وبعد سنتين تقريبا أنجبت له بالفعل سيدنا إسماعيل فتزداد الغيرة في قلب السيدة سارة حتى يأمره الله أن يأخذ زوجته وابنه الذي جاء بعد طول انتظار إلى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وهو يدعو في طريقه إلى العودة وهو الأواه المنيب (ربنا...ربنا ... ربنا....). ثم يشاء الله بعد أن يأست سارة من الإنجاب أن يرزقها بيعقوب! فبمنطقنا اليوم (لِم كل هذا العناء؟) ألم يعلم الله أنه سيرزقها بيعقوب فلمَ ابتُليت بهذا البلاء حتى عقرت؟ هل هذه تُعد حياة بميزان اليوم ؟ هل يحب أن يحيا أحدنا حياة شبه هذه ويكون عبدا شاكرا ويعتقد أنه قد ناله من الدنيا نصيبه كاملا غير منقوص؟ كما قال سيدنا إبراهيم بعد ذلك (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء) هو يحمد الله على نعمه وفضله بعد ما رأى من إبتلاءات عدة ولا يرى إلا النعم وأعظمها نعمة الإسلام. ما هو تعريف حياة سيدنا إبراهيم في عرفنا الحالي؟

وما تعريف حياة أم موسى عليهما السلام بعد أن تركت وليدها في اليم ثم لتعمل مرضعة بالأجر ثم بعد عامي الرضاعة أظنها لم تكن تزوره بعدها وإن حدث فمن المؤكد أنها كانت تزوره خلسة والله أعلم ولكن لو تناولت السينما في وقتنا هذا حياة هذه السيدة فستظهر أنها عاشت حياة بائسة جدا على أنها مرضعة ولا يعرفها ابنها وتنظر إليه من طرف خفي وهو يلعب في بيت فرعون ودمعتها على خدها ولكنَّ الله لم يقل ذلك لأن في الحقيقة أنها قُرَّت عينها ولم تحزن ... ولكن هل هذه تعد حياة بميزان اليوم ؟ هل يحب أحدنا أن يعيش هذه الحياة؟

وما رأيك في حياة نبيِّ الله يعقوب ويوسف عليهما السلام، وحسب أغلب الروايات فقد "أُلقـي يوسف فـي الـجبّ وهو ابن سبع عشرة, فغاب عن أبـيه ثمانـين سنة -حتى عميت عين أبيه من الحزن والبكاء-, ثم عاش بعدما جمع الله له شمله, ورأى تأويـل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة, فمات وهو ابن عشرين ومئة سنة"* وخلالها دخل السجن ظلما  بعد أن طُعن في أخلاقه. هل أحدنا يحب أن يعيش حياة نبي الله يعقوب أو يوسف؟ وهل يراها أحدنا أنها حياة؟ وهل هذه الحياة هي التي نحب أن نعيشها مرة واحدة؟

القصص لا تنتهي، والحقيقة أني ما كتبت هذه السطور لكي أبعث في النفوس التشاؤم وكره الحياة، ولكنّ الحقيقة أن هذه الحياة إبتلاء، في الرخاء ابتلاء وفي الشدة ابتلاء.

وإن كنا قد ألقينا نظرة على بعض الأمثلة القديمة فنلق نظرة على المعاصرين:

- فمنا من ابتلي بالسجن وهم الآن بين أربع جدران في غرف صغيرة جدا ورائحتها كريهة يدخلون الخلاء بمواعيد وليس عندهم تكييفات في الصيف أو دفايات في الشتاء ومنهم من دخل ووُلد ابن له بالخارج لا يربيه ولا يراه وهو يكبر، كل هؤلاء سُجنوا فقط من أجل قضية سياسية على أيدي قتلة، فهل هذه هي الحياة التي لا تعاش إلا مرة واحدة؟

-ومنا من إبتلي بموت أو استشهاد ابن أو ابنة ولم يعد يطيق أن يكمل هذه الحياة بدون فلذة كبده وقد ودعه وداعا مفاجئاً لا لقاء بعده في هذه الدنيا! هل هذه حياة نحب أن نعيشها؟

-ومنا من ابتلي بإبن معاق في مخه وقد ذَهَبْتُ منذ فترة في مركز لعلاج ضمور المخ ورأيت الأمهات وهن ينتظرن بالخارج وغيرهن يعشن حياة أخرى وليس لديهن نفس الإبتلاء ولكن منهن من ابتليت بابن عاق  أو فاشل أو متعاطٍ للمخدرات أو زوج سيء أو فقر...إلخ. والسوريون في ابتلاء لا حصر له والفلسطينيون أيضا...، فهل هذه حياة يحب المرء أن يعيشها وتُعد حياة في نظر المسلمين في يومنا هذا؟

الحقيقة أني أرى أننا يجب أن نعيد تقييم هذه الحياة ونعرف أنها دار ابتلاء وكلٌ منا مبتلى حسب طاقته وعِلْمِ الله في صبره، وكلٌ منا يجب أن يحمل مسئولية الباقي، فمن لم يُبتلى بأيٍ من هذه الإبتلائات السالف ذكرها يجب عليه أن يشكر الله أولا ثم يعطي وقتا أو عملا أو دعاءً لهؤلاء المبتلين ويعرف أنه سيموت ويُسأل عن صبره في الضراء وعن النعيم في السراء ثم بعد الموت تبدأ حياته الحقيقية والتي لا تغيير فيها وهي حصاد هذا الحياة بتقلباتها ببلاءاتها بعد النجاح بإذن الله في هذه الإبتلاءات، والتي عندها يقول بإذن الله (لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شقاء قط)... لأن وقتها سيرى حياته الحقيقية والتي كانت تستحق العناء من أجلها.

Thursday, May 3, 2018

وَسَارَ بِأَهْلِهِ..

بسم الله الرحمن الرحيم،

لأسباب عدة أُحب نبي الله موسى عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام،
فهو له في قلبي مكانة خاصة، من المحتمل أنه قد شغل هذه المكانة كونه قد مَرَّ على عدة مراحل في حياته وكان في طياتها الخوف، وأزعم أن هذا الخوف كان نتيجة التربية المختلطة غير المستقرة التي عاشها منذ أن كان رضيعا فهو لم يجد أمه بالشكل التلقائي الذي يمر به أي رضيع، بل كانت ترضعه أولا وهي خائفة، ثم وضعته في التابوت، ثم ألقته في اليم، ثم ألقاه اليم بالساحل حتى يقع في أيدي قوم فرعون إلى أن مس حبُّه قلبَ امرأةِ فرعون والتي قد حُرِمَت الذرية فألقى الله في قلبها محبته ثم بعد كل هذا لا يقبل أن يرضع من أي مرضعة حتى وجدته أخته فدلتهم على أمه حتى اللحظة الجميلة التي وصلت فيها أمه وقلبها يملأه الفرح لترضعه فيرضع ويسكت الرضيع بعد رحلة من البكاء والجوع... ولك أن تتخيل الرضيع والأم وهما في هذه الرحلة إلى هذه اللحظة.
ثم تخيل  حياته بين حنان امرأة فرعون وبين بطش فرعون والذي هَمَّ أن يقتله عدة مرات لولا أن حال الله بينه وبين ذلك.. ثم كبر موسى عليه السلام بين حنان المرأة المؤمنة الصالحة وبين بطش مدعي الإلوهية المتكبر لكي يتمتع بصفتين رقة القلب والقوة في آن واحد.. فهو عندما مر برجل من قوم فرعون يبطش برجل ضعيف من بني إسرائيل فقوته مع رقة قلبه جعلته يدافع عن الضعيف ولكنه خاف بعدها وترك المدينة (مصر) خائفا يترقب ساعيا إلى الشام..ولنا أن نتخيل رحلته وسط ظلام صحراء مصر أياما وأسابيع وهو خائف يترقب قوم فرعون الذين يأتمرون به ليقتلوه ولا يعلم في أي لحظة يجدوه وإلى أي مكان يذهب فقال هذه الكلمات (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)، حتى ساقه الله لبيت نبي الله شعيب أو الشيخ الصالح الذي طمأنه (أخيراً) بهذه الكلمات الشافية (لا تخف، نجوت من القوم الظالمين) فيتنفس الصعداء ويهدأ.... وتبدأ الرحلة.

ثماني إلى عشرة أعوام من العمل مع الرجل الصالح في وجود السكن (الزوجة) ولنا أن نتخيل الرجل الخائف والذي مما لا شك فيه أن السفر والغربة قد نالا من صحته شيئا ومن ملابسه ونفسيته وكان منعما في بيت فرعون، حتى مَنَّ الله عليه بالعمل والزوجة والنسب الصالح الرحيم الذي لا يشق عليه ويصبر عليه حتى إنتهاء مدة عمله، وكانت هذه السنوات بمثابة عملية تحول في شخصية نبي الله موسى، فهو الآن رب أسرة، ويعمل عملا يشبه الوظيفة في وقتنا الحالي، فهو ليس في نظام قمعي كنظام فرعون ولا هو في رفاهية بيت فرعون ولكن تجربة إنتقالية فيها رحمة مع مسئولية، التجربة التي يستهين بها غالبية الناس ولكنها الأصعب على الإطلاق في حياة أي رجل، الإدارة الناجحة للعمل والأسرة وتربية الأولاد.

ثم بعد إنتهاء مدة العمل المتفق عليها، دخل نبي الله موسى مرحلة جديدة والتي جعلته وقتها يتخذ قرارا جريئا، ولم يكن ليدخل في هذه المرحلة إلا بعد هذه الآية (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ... وَسَارَ بِأَهْلِهِ..) ولنا وقفة هنا عند كلمة (وسار بأهله) وعندما نراجع تفسير ابن كثير نجد الآتي (وسار بأهله " قالوا كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة).... وهنا يأتي السؤال المنطقي: لِمَ تخاطر يا موسى؟ لِمَ تأخذ أهلك معك في هذا الطقس وهذا الطريق؟ هل هذه المخاطرة أفضل من عملك في الشام ؟ أتغامر بمجهود عشرة سنوات (وفي قول آخر أنه  قضى عشر سنين وبعدها عشرا أخر) فهل تضيع مجهود عشرين عاما من العمل والإستقرار من أجل رحلة إلى مصر؟ هل اشتقت إلى أمك؟ هل اشتقت إلى أمك الثانية (إمرأة فرعون)؟ هل اشتقت لأصحابك من بني إسرائيل وذكريات طفولتك؟ هل يستحق الأمر لكل هذه المخاطرة؟ تخاطر أيضا بما لديك من الغنم وهو مصدر رزقك؟ أتدري ما الذي تفعله بنفسك وأهلك وما معك من رأس مال؟
إنه الشجن، والإشتياق، وما يجده المرء فيما يسمى بالوجدان، طبقات من الذكريات المتداخلة التي تُنحت في قلبه تجعله يفعل ما لا يدركه مَن حوله وتجعله يبحث عن ما بداخله والذي مر عليه عشرة أو عشرون عاما!
سار بأهله وأخذ المخاطرة، وقد مَنَّ الله عليه بإبنة رجل صالح والتي من المؤكد قد دعمته ولم تخذله ولم تقل له إذهب بمفردك، أو ابق هنا معنا حيث رعي الغنم واستقرار الحياة وتربية الأولاد في البيئة التي نشأوا فيها! فكانت نِعم السند في هذه الرحلة، وهذه من أولى صفات الزوجة الصالحة، أن تكون سكناً وسنداً.

ثم....(فآنس من جانب الطور نارا).... وبدأت الرحلة... رحلة النبوة.

ولكن لم ينتهي الخوف في قصة نبينا موسى، فهو بعد كل هذا كان يخاف أن يذهب لفرعون وقومه فيكذبوه، ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه فيتلعثم فأراد أن يستعين بأخيه هارون، ويخاف أن يقتلوه لذنب قتل الخطأ الذي فعله في الماضي، ثم خاف أن يفرط فرعون عليه وبصحبته أخوه هارون، ثم أوجس في نفسه خيفة عندما خُيِّلَ إليه حبال السحرة وعصيهم من سحرهم كأنها تسعى، ومع كل مرحلة خوف كان يأتي الدعم من رب السماوات والأرض على أشكال عدة:

- اليقين: "قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون"
- الدعاء: رب اشرح لي صدري .. ويسر لي أمري .. واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
- الرفيق: واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي
- الذِكر.. كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا..
- ثم يأتي الدعم الإلهي حينما أوجس في نفسه خيفة ..لا تخف إنك أنت الأعلى.

- ثم في آخر مشهد وبعد كل هذه الرحلة من الخوف والإطمئنان وكان من المنطقي أن المواجهة الكبرى تؤدي إلى الخوف الأكبر، ولكن حدثت المفاجأة، أنه لم يخف، وكيف يخاف وقد مشى رحلة كان أنيسه فيها هو الله، وقد رأى بعينيه لطف ربه في كل مرة ضاقت عليه الأرض ثم وجد الفرج والمخرج والسكن والأمان... فقال "كلا إن معي ربي سيهدين".. فكان الله تعالى عند ظن عبده به.

ويمكننا أن نتعلم من هذه القصة حتى هذا المشهد بعض النقاط:

أولا: أن تترك الأمور تجري بمقادير الله، فلا تعلم وأنت خائف لا تعلم أين تذهب أي طريق سيكون فيه الخير، فقط أحسن الظن بربك وتوكل على الله (عسى أن يهديني ربي سواء السبيل).
ثانيا: أن تختار زوجة صالحة من نسب صالح تعينك على نوائب الدهر حيناً وعلى قراراتك الجريئة حيناً آخر فتتحمل معك ولا تحملك فوق طاقتك، تشعر بما تشعر به وتمشي معك الطريق الذي تؤمن به ولا تبالي بالمعوقات، فإذا عزمت فتوكل على الله ولا تلتفت.
ثالثا: أن لا تهرب من أحلامك ووجدانك بل امضِ قدماً لكي لا تعيش حربا داخلية، واستخر وتوكل على الله (وسِرْ) بأهلك كي لا تكون وحيداً، فالطريق شاقٌ وطويلٌ.
رابعا: تَمَهَّل، فربما تحتاج عشرة أعوام أو عشرين كي يكتمل نضوجك بين إدارة بيت وعمل وخبرة حياة حتى تتخذ الخطوة الجريئة، فهي تحتاج لخبرة حياتية قبل أي شيء.
خامسا: أطلب العون والمدد من ربك، أطلب منه المدد البشري والمدد النفسي والبدني وقِرّ له بضعفك، أطلب منه كل شيء، اجعل الدعاء منهج حياتك.
سادسا: أذكر الله وسبحه بالعشي والإبكار ... إعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
سابعا: يأتي لك الدعم الإلهي بعدما تستنفد كل الأسباب فتعرف أنك بعد كل هذا ليس لك إلا الله وأنك لست إلا عبداً ضعيفاً لا يملك لنفسه نفعا ولا ضراً، ولكن يأتي بتمام الثقة في الله وحسن الظن في الله (كلا، إن معي ربي سيهدين)... إذا وصلت لتمام الثقة جائك المدد على ضعف حيلتك ونفاد أسباب الدنيا.