السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بسم الله الرحمن الرحيم،
هذه المقالة أو التدوينة هي مكملة لما قبلها، وكنت في المرة الماضية قد تكلمت عن مسببات الثبات عسى الله أن يثبتنا وإياكم على الحق حتى نلقاه. ولكن هنا أريد أن أتكلم عن كيفية التعامل مع من ترك الساحة المسماة بالفنية كأختنا حلا شيحة أو من تركوا دينهم ودخلوا في الإسلام، وفي الحالتين يشترك الشخصان في أنهما نشئا في محيط وبيئة غير متدينة نهائيا سواء مسلمة أو كافرة، وهذا اجتهادي والله أعلم، ظناً مني أنه إذا تعامل المحيطون بهم بهذا الأسلوب سوف يساعدهم على الثبات وهو مجرد سبب من الأسباب، وما الثبات والهداية في النهاية إلا من عند الله عز وجل.
وأرى أن هناك سببين أساسيين لرجوع إخوتنا إلى ما كانوا عليه:
أولا: معاملة الناس لهم بعد هذا التحول.
ثانيا: عدم الدراية بالحياة بعد هذه الخطوة.
نأتي للنقطة الأولى:
ما لاحظته أن الناس إذا رأت هذا الأنموذج يعاملونه وكأنه صحابي-صحابية من زمن النبوة، فينظرون له بكل إجلال وتعظيم وإعجاب، وهم معذورون في ذلك فقد ترك ما لا يستطيع الكثير تركه، لقد ترك شهوة الشهرة وانخلع منها ومن محيطها وهو مغموس فيها فكيف لا يعجب له الناس! ولكن للأسف هذا الإعجاب يأخذه إلى مستوى من المسئولية أحسبه شاقا عليه، فهو الآن يعامل كصحابي أو نبي مرسل، وهو ليس كذلك، بل هو لا يزال إنسانا ضعيفا، يُخشى عليه من الزلل كجميعنا، ويُخشى عليه من الإشتياق للصحبة القديمة، والشهرة والمال...إلخ وكلها قد زُينت له كما ذكرالله تعالى في القرآن الكريم (زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث..ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسن المئاب) سورة آل عمران ١٤، إذاً هو في اختبار أصعب من إختباراتنا العادية، وهو معرض للزلل أيضا أكثر من غالبيتنا الذين هم في منأى عن هذا المحيط.
والحل: معاملة الناس لهم بالترحاب والحب والصداقة، ولكن بدون إعجاب زائد يجعلهم يشعرون أنهم أنبياء فلا يقوون على ما يواجهون فيما بعد من إبتلاءات أو شهوات ثم بعد فترة زمنية يكتشفون أنهم ليسوا كذلك بل هم بشر ضعفاء.
تخيل مثلا أن أحد حديثي التخرج قد تم تعيينه في شركة كبيرة وبعد تعيينه فوجئ بالجميع يصفقون له ويقولون له لقد عُيِّنتَ مديرا للشركة وأنت عالم في تخصصك وعلى علم بالإدارة وما إلى ذلك، ماذا تنتظر من هذا الشاب أن يفعل؟ سوف ينهار بعد عدة ايام بعد ما يصطدم بالمشاكل الحقيقية في الشركة والتي تحتاج حتى يواجهها إلى تدرج في الوظيفة وتعلم وتواضع حتى يصل لهذه المنزلة وأن من حوله كان من الأحرى بهم أن يعاملونه على هذا الأساس حتى لا يشقوا عليه ويحملونه فوق طاقته.
ورجوعا للملتزم: ما يحدث أن هذا الشخص يبدأ فورا بحضور الدروس لكي يلقي محاضرات عن قصة توبته، ثم يبدأ بإعطاء دروس بعد فترة وجيزة، فتُسلط عليه الأضواء ويكبر في عين نفسه وعين الآخرين ويكون هذا ضارا له فيما بعد، إذا أراد أن يتعامل مع ضعفه وآدميته فلا يعرف لأن الناس كلهم يراقبونه فتتقزم أمامه مراقبة الله تعالى وتتضخم مراقبة الناس له حتى يسأم هذه الحياة المبنية على خوف الناس ومراقبتهم فيتركها بالكلية.
ثم النقطة الثانية:
عدم معرفة حقيقة الحياة بعد التدين، والحقيقة أن الحياة بعد التدين ليست جنة مليئة بالأزهار، بل هي حياة عادية جداً مليئة بالإبتلاءات تارة والإختبارات تارة والفرح تارة والحزن تارة وقد قال الله تعالى ذلك في كتابه الكريم (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) - سورة البقرة ١٥٥، وأيضا (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) سورة محمد ٣١..
ولكن كيف تكون الحياة كذلك وقد قال الله تعالى (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) سورة النحل ٩٧؟
ما أعتقده أن الحياةَ تكونُ حياةً طيبة إذا قنَّعك الله بالقليل وبما عندك وإذا رزقك الصبر على البلاء فتكن وقتها حياة طيبة.
إذا تركت ملذات الحياة ووقفت بين يدي ربك آناء الليل ساجدا وقائما، إذا اجتنبت المعاصي وأقمت الفرائض والسنن وجاهدت في الله حق جهاده وقتها تجد لذة العبادة في قلبك وعند المصائب تجد الصبر والسلوى والثبات وعند قراءة القرآن تجد الأنس والراحة وكأنك تحيا حياةً ثانية وسط كل بلاءات الحياة.. يشكو الناس قلة المال وأنت تجد البركة في القليل أو عدم المرض وآخرون ينفقون أموالهم على العلاج والمستشفيات والعيادات مثلا، تجد عدم التوفيق عند من حولك وتجد حب الناس لك وتجد الرضى بالقليل، تجد عقوق الأبناء عند غيرك وتجد بر أولادك لك، تجد تشتت من حولك ولم شملك وعائلتك وهكذا وإن ابتليت ببعض هذا تجد نفسك صابرا.. هذه هي الحياة الطيبة، ولكن أن يتصور الملتزم أن حياته بعد الإلتزام ستكون خالية من الشقاء وستكون مليئة بالبهجة الدائمة، فهذا لم يقل الله به ولم يخبرنا به رسول الله ﷺ.
من المحتمل أن يكون زوجك الملتزم المتدين الدارس للعلم الشرعي الحافظ لكتاب الله تعالى المحافظ على الصلوات بالمسجد سيء الطباع أو سيء المزاج، أو عاطلا عن العمل أو فقيرا أو غنيا ولكن بخيلا أو انطوائيا أو مكتئبا أو عصبيا أو لا يناسبك وأيضا من المحتمل أن تنفصلا لأي سبب غير مذكور! من المحتمل أن يتزوج بأخرى أو بأخرتين! وقد رأيتها شخصيا عندما أسلمت سيدة أمريكية لكي تتزوج من مسلم وعملت بالدعوة ثمانية أعوام ثم تزوج هو بعد ذلك بأخرى فتَرَكَتِ الدينَ بالكلية وكأن لسان حالها يقول (أهذا الدين هو سبب هذا الزواج الثاني؟ إذاً لا أريده بالكلية) وكأن آية التعدد لم تكن مكتوبة عندما تزوجته ثم أضيفت بعد ذلك مثلا! أو أنها أسلمت فقط إيمانا بهذا الرجل وليس إيمانا واتباعا لله! والله أعلم بالسرائر.
أيضا من المحتمل أن تقابل عالما أو قارئا للقرآن ثم تكتشف أنه ذليل المال ويستخدم علمه لجني المال، من المحتمل أو من المؤكد أن تجد من حولك من الملتزمين كلٌ منهم مبتلى بمعصية، فمنهم من ابتلي بداء حب الشهرة ومنهم من ابتلي بداء الفضول، أو البخل والشح أو الخداع أو شهوة النساء أو يعمل عملا فيه معصية كربا أو غيره....إلخ وأحيانا نصادف من سمته التدين وتجده يستخدم التعريض في كل كلامه فيصبح مدلساً وكذابا، وهكذا ولا تنتهي النماذج.
فيجب أن يعلم الملتزم أننا كلنا في نفس اختباره فمنا من ينجح ومنا من يرسب وهكذا حتى الممات ولا ندري أنقبض على هذا الحال أم ذاك ولعياذ بالله.. ولكن أن يتصور أنه قد دخل عالَمًا من الملائكة فهذا ظلم له ولمن حوله وسوف يصطدم في النهاية سواء بالزوج-الزوجة-أخلاق الناس-ضيق العيش...إلخ فيُصدم ويقول في نفسه هؤلاء منافقون وأنا كنت أعيش وسط أناس عصاة ولكنهم لم يكونوا منافقين... ولكن الحقيقة أن العاصي إذا ستر نفسه كان أفضل عند الله من هذا الذي يجهر بمعصيته، ومن إلتزم بما يستطيع من الدين ولازال عنده من المعاصي أو حتى من الكبائر ما لم يتب منه أو يجاهده فهو أفضل ممن لا يريد أن يتوب أو أن يعترف أنه يذنب أصلا ويجاهر بجميع المعاصي.
والحل أن نرشده إلى حقيقة الحياة حلوها ومرها وابتلاءات الله تعالى لعباده بعد الهداية... وأن الجزاء الأوفى والراحة الأبدية في الجنة وأن الدنيا دار امتحان وبلاء وأن جنته في قلبه إذا خلى بربه وبَعُدَ عن الشهوات والشبهات وجاهد في الله حق جهاده.
(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) سورة العنكبوت ٢-٣
أرجو أن أكون قد وُفقت في هاتين النقطتين وأسأل الله أن نكون عونا لعباده على بصيرة حتى نلقاه.