Tuesday, June 5, 2018

النعمة التي لا نشعر بها

منذ عدة أعوام كنت أدرس بإنجلترا بمدينة لندن، وكنت أقيم بمنزل للطلبة تابع للكنيسة الألمانية وكان بها نزلاء من جميع الجنسيات كلهم طلبة دراسات عليا في جميع المجالات، وكانت التجربة ثرية جداً، رغم أني كنت أتجنب الحفلات والتجمعات الليلية ولكني كنت أتناول إفطاري مع الجميع، وكل يوم كان يجلس على طاولة الإفطار ثلاثة غيري (بحيث أن كل طاولة يجلس عليها أربعة) فكنت يوما أجلس مع الإفريقي، ويوما مع الألماني ويوما مع الأمريكي، ويوما مع الصيني ويوما مع المكسيكي أو التايواني، ويوما مع أكثر من جنسية، وحدث يوما أن جلسَت على الطاولة فتاة أمريكية، وكان من بروتوكولات المكان أنه يجب على الناس أن تتكلم على الإفطار كنوع من التقارب الثقافي، فكان كلُّ منا يفتح موضوعا عن بلده أو دراسته فبدأ الحديث عن ما تفعله الأمريكية فقالت بمنتهى الإعتزاز أنها تدرس لكي تساعد المحتاجين في أدغال أفريقيا فسألتها ولماذا تركت أمريكا ويتمنى العالم كله أن يهاجر إلى هناك، فقالت بنفس مستوى الإعتزاز أن الموضوع أكبر من الحياة في أمريكا بل التجربة نفسها تستحق أن تترك أمريكا من أجلها لأن الأمر له ابعاد إنسانية ونفسية أخرى ورسالة وقيمة للمهنة نفسها وما تفعله... ولك أن تتخيل أيها القارئ العزيز أنها تركت أمريكا لكي تعمل وسط أدغال أفريقيا ثم تركت أفريقيا لتدرس علماً يفيدها في عملها ثم ترجع مجددا إلى مكانها في أفريقيا.

موقف آخر، كنت في رمضان وفي طريقي من لندن لاستنبول ترانزيت ومن استنبول إلى القاهرة، وكنت أجري وأحمل حقيبة وأجر أخرى حتى وصلت الطيارة وكنت منهكاً فاستخرت أن أفطر لأن اليوم كان في بدايته ولي رخصة الإفطار، فجائت الوجبة فبدأت بالأكل وكان بجانبي تجلس فتاة قد أكلت أكلها وتركت سمكا مدخنا فقدمته لي على أنها لا تأكل اللحوم وأنها تأكل فقط الخضروات، وبدأ الحديث عن من أين أنا وإلى أين اذهب وما إلى ذلك، ثم سألتها نفس السؤال فقالت لي أنها إنجليزية تدرس الطب بجامعة غير معروفة بليڤرپول، فسالتها عن سبب سفرها إلى استنبول فأجابت أنها ستأخذ طائرة من استنبول إلى نيپال بسبب نتائج الزلزال هناك والذي أدى إلى حوادث خطيرة وقد أرسلتها كليتها لكي تؤدي التدريب الصيفي شهرا هناك وسط حالات خطرة ثم تعود إلى إنجلترا.

تعجبت أن غيرنا يسافر ويترك التنعم لكي يرى مِحَن غيره لكي يساعدهم سواء بدافع إنساني/ديني أو بدافع تعليمي وكلها إفادة، بينما يترك أهل هذه البلاد بلادهم لكي يسافروا أمريكا أو أوروبا من أجل حياة أفضل!

قد يقول أحد أن من يحيا حياة بها حرية واكتفاء مادي يكن عادة لديه هذا الإحساس، إحساس مساعدة الآخر، والدليل على ذلك أن مصر خلال فترة الثورة كان يذهب شبابها إلى غزة والصومال وغيرها للمساعدة، ولكن في أوقات الأزمات السياسية لا يملك نفس الإنسان أن يساعد غيره بسبب القمع وقلة المال والإحباط العام.

إذاً ما العمل للخروج من هذه الدائرة؟ أننتظر أن ينصلح حال البلد حتى نساعد ملايين الفقراء الذين حولنا، أم أن نسارع بالسفر كما يتمنى الكثير منا ويعمل على ذلك، أم أن يكون كل همنا هو "البقاء" كحلم كل من يعيش في أي دولة قمعية فقيرة؟

الإجابة يستطيع أن يجيبها كل واحد منا على حدة، ولكن إذا كان لدينا شيء نقدمه فلا يجب أن نتأخر. وليكن من باب التعليم  والخبرة إن لم يكن من باب الإنسانية أو الدين.

Monday, June 4, 2018

ما أؤمن به وأدعو إليه

إذا كنت لست ممن يهتمون بالعمارة (الهندسة المعمارية) فلا أعلم حقيقةً هل ستحب هذه التدوينة أم لا، وتذكر أني حذرتُكْ!

بدايةً أود أن أقول لماذا أتكلم عن ما أؤمن به وأنا الآن شخص عادي لا يعرفني أحد ولماذا لا أنتظر حتى النجاح والشهرة حتى أتكلم:

أرى أنه ليس من البطولة أن أدعو إلى ما أؤمن به وأنا قوي، فلا شك أنني عندما أكون قويا سيسمعني الناس بسبب قوتي، ونلاحظ أن الله تعالى لم يُنزل الرسالة على الأنبياء ليبشروا الناس بها وهم في موقع السلطة والقوة، بل تأتي القوة والسلطة بعد ما يدعون إلى ما يؤمنون به وهم ضعفاء لا يتبعهم إلا الضعفاء ثم بعد ذلك تأتي السلطة والقوة ولا يتغيروا بل ويكون الإختبار الحقيقي لما كانوا يدعون إليه وهم ضعفاء ... وأحيانا لا تأتيهم القوة ويموتون وهم في منتصف الطريق وبلا عدد كبير من المؤمنين برسالتهم. ومن مميزات الدعوة إلى الله في وقت الضعف أن الإنسان يدعو بقلبٍ خالصٍ لله (أو للفكرة) لا تشوب دعوته زخرف الحياة الدنيا بل هو مستعد أن يموت وهو على الطريق وإن لم يحقق شيئا فقط لإيمانه بهذه الدعوة وعلى من يأتي بعده ويؤمن بما آمن به أن يكمل طريقه.

إذاً ما الذي أؤمن به؟ وأسأل الله تعالى أن يقر عيني به في الدنيا قبل الآخرة وأن يصبح إرثا تتوارثه الأجيال يؤمنون به ويطورون عليه.

ما أؤمن به:
١. أن العمارة ليست منقسمة إلى تصميم وما بعد التصميم، بل هي العمارة، بداية من الفكرة حتى انتهاء المبنى وشغله وتقييمه.

٢. أن حصر المعماري في كلمة مصمم هي انتقاص من امكانياته العديدة الأخرى كقدرته على إدارة باقِ الإدارات الهندسية كسباكة وميكانيكا وإنشائية وكهرباء وغيرهم، فالمعماري هو الوحيد القادر على أن يفهم كل هؤلاء ويعطي حلولا لهم جميعا بما لا يعارض العملية التصميمية.

٣. أن دخول حديثي التخرج في العملية التصميمية فور تخرجهم والوقوف عندها بدون أن يمروا على باقية مراحل التصميم من تطوير التصميم والرسومات التنفيذية ثم الإطلاع على رسومات الورش ثم فهم الموقع وآلياته والمواد المستخدمة، كل ذلك يعد من صميم المهنة ويحتاجها المعماري للتصميم وحصره في أي مرحلة من المراحل لا يجعله معماريا بل يجعله خبيرا يمكنه أن يعمل في مؤسسة في هذا القسم ولكنه لا يملك مهارة التصميم المتكامل، وهو ما يحتاجه لكي يصبح معماريا حقيقيا. ولنا في تجربة رِنزو پيانو في مكتب لوِي كان وقد كان يعمل (معماري مشروع)، وأيضا في تجربة ريتشارد روچرز وخبرته في إس أو إم، ونورمان فوستر وخبرته كرسام خير مثال لمدى أهمية الخبرة مع وجود باقِ المهارات الفنية.

٤. أن ما يسمى بالتصميم البيئي ليس مرحلةً من مراحل التصميم أو معطيات من معطيات التصميم، ولا هو بحد ذاته هو التصميم، بل هو علم نقصانه يمكنه أن يدمر أي تصميم ذي شكل جميل، ولكن الإهتمام بالبيئة فقط وتجاهل الأبعاد الإنسانية والفنية والعمرانية والثقافية والتاريخية والمادية بل والكيميائية أحيانا جميعهم في الأهمية سواء.

٥. أن المعماري ليس نِداً لباقي الأقسام بل هم جميعا يعملون مع بعضهم البعض بشكل تكاملي كفريق يعزف سيمفونية بقيادة مايسترو واحد لا أحدَ نداً لآخر.

٦. أن على المعماري أن يفهم ما يرسمه قلمه، فلا يكون كمن يصمم سيارة وهو لا يعرف حجم ونوع الموتور والأسس الميكانيكية لوجود الموتور، فجمال التصميم يأتي بتحقيق إمكانية تنفيذه لا أن يكون غيرَ مدروس فيأتي فلان أو عِلان من الأقسام الأخرى فيغير ما فعله المعماري، بل كان الأولى أن يعلم المعماري في علوم الأقسام الأخرى لكي يستبق هذه المرحلة ويقطع الطريق على من يريد أن يغير تصميمه بل ويعطي له أحيانا خيارات، وإن لزم الأمر فيكون باجتماع الفريق أو بعض منه لكي يستفيد الجميع من خبرة الآخر.

٧. هذا ليس معناه أن المعماري يتخلى عن ما تعلمه وعن ما يؤمن به من نواحي فنية ولكن أن يأخذ من كل قسم خبرته وأن يعلم أن الناحية الفنية تمثل عشرة بالمائة من العملية التصميمية.

٨. العمارة في العالم العربي ضعيفة جدا وهي أقرب إلى الجسد الميت ويحييها العلم والعلم الذي يأخذه الطالب في الوطن العربي علم ضعيف جدا وناقص، ولكنه يكتمل عن طريق عدة أشكال:

أولا، عمل دراسات عليا ويُفضل خارج الوطن العربي حيث الجامعات التي تصدر العلم لا التي ليس لها مكاناً في عالم البحث العلمي.
ثانيا، عن طريق حضور ورش عمل إن لم يستطع الأولى ولكن الدراسات العليا لها فائدة كبرى من وجهة نظري أكبر من الرسالة الأخيرة أو ما يتعلمه الطالب ألا وهي معرفته بأدوات البحث العلمي والذي سوف يساعده بعد انتهاء الماچيستير في قراءاته وبحثه بشكل عام.
ثالثا، أن يحاول أن يقرأ ويشاهد ڤيديوهات تعليمية لكي لا يكون بعيدا عن ما يحدث بالخارج.. وهذا أضعف الطرق.

نعم، إن اتبعنا هذا الطريق سنكتشف أن علم العمارة مثل الطب، يلزمه سنوات من الخبرة والبحث والدراسات العليا والإختبارات حتى تصبح معماريا... هل هذا كلامي؟ لا، ليس كلامي بل في أي بلد متقدم إن قلت أنك معماري يُفهم فورا أنك خبرة ٨ سنوات على الأقل أو أكثر بسبب الخبرات المذكورة أعلاه وبسبب الإختبارات التي مررت بها لكي تكتسب هذا اللقب عن طريق المؤسسات المخولة بذلك ولكن أن تمارس المهنة فور تخرجك لأنك أصبحت عضوا بنقابة المهندسين عضوية أبدية هذا هو قمة الظلم لك قبل أن يكون ظلما للمجتمع.