منذ عدة أعوام كنت أدرس بإنجلترا بمدينة لندن، وكنت أقيم بمنزل للطلبة تابع للكنيسة الألمانية وكان بها نزلاء من جميع الجنسيات كلهم طلبة دراسات عليا في جميع المجالات، وكانت التجربة ثرية جداً، رغم أني كنت أتجنب الحفلات والتجمعات الليلية ولكني كنت أتناول إفطاري مع الجميع، وكل يوم كان يجلس على طاولة الإفطار ثلاثة غيري (بحيث أن كل طاولة يجلس عليها أربعة) فكنت يوما أجلس مع الإفريقي، ويوما مع الألماني ويوما مع الأمريكي، ويوما مع الصيني ويوما مع المكسيكي أو التايواني، ويوما مع أكثر من جنسية، وحدث يوما أن جلسَت على الطاولة فتاة أمريكية، وكان من بروتوكولات المكان أنه يجب على الناس أن تتكلم على الإفطار كنوع من التقارب الثقافي، فكان كلُّ منا يفتح موضوعا عن بلده أو دراسته فبدأ الحديث عن ما تفعله الأمريكية فقالت بمنتهى الإعتزاز أنها تدرس لكي تساعد المحتاجين في أدغال أفريقيا فسألتها ولماذا تركت أمريكا ويتمنى العالم كله أن يهاجر إلى هناك، فقالت بنفس مستوى الإعتزاز أن الموضوع أكبر من الحياة في أمريكا بل التجربة نفسها تستحق أن تترك أمريكا من أجلها لأن الأمر له ابعاد إنسانية ونفسية أخرى ورسالة وقيمة للمهنة نفسها وما تفعله... ولك أن تتخيل أيها القارئ العزيز أنها تركت أمريكا لكي تعمل وسط أدغال أفريقيا ثم تركت أفريقيا لتدرس علماً يفيدها في عملها ثم ترجع مجددا إلى مكانها في أفريقيا.
موقف آخر، كنت في رمضان وفي طريقي من لندن لاستنبول ترانزيت ومن استنبول إلى القاهرة، وكنت أجري وأحمل حقيبة وأجر أخرى حتى وصلت الطيارة وكنت منهكاً فاستخرت أن أفطر لأن اليوم كان في بدايته ولي رخصة الإفطار، فجائت الوجبة فبدأت بالأكل وكان بجانبي تجلس فتاة قد أكلت أكلها وتركت سمكا مدخنا فقدمته لي على أنها لا تأكل اللحوم وأنها تأكل فقط الخضروات، وبدأ الحديث عن من أين أنا وإلى أين اذهب وما إلى ذلك، ثم سألتها نفس السؤال فقالت لي أنها إنجليزية تدرس الطب بجامعة غير معروفة بليڤرپول، فسالتها عن سبب سفرها إلى استنبول فأجابت أنها ستأخذ طائرة من استنبول إلى نيپال بسبب نتائج الزلزال هناك والذي أدى إلى حوادث خطيرة وقد أرسلتها كليتها لكي تؤدي التدريب الصيفي شهرا هناك وسط حالات خطرة ثم تعود إلى إنجلترا.
تعجبت أن غيرنا يسافر ويترك التنعم لكي يرى مِحَن غيره لكي يساعدهم سواء بدافع إنساني/ديني أو بدافع تعليمي وكلها إفادة، بينما يترك أهل هذه البلاد بلادهم لكي يسافروا أمريكا أو أوروبا من أجل حياة أفضل!
قد يقول أحد أن من يحيا حياة بها حرية واكتفاء مادي يكن عادة لديه هذا الإحساس، إحساس مساعدة الآخر، والدليل على ذلك أن مصر خلال فترة الثورة كان يذهب شبابها إلى غزة والصومال وغيرها للمساعدة، ولكن في أوقات الأزمات السياسية لا يملك نفس الإنسان أن يساعد غيره بسبب القمع وقلة المال والإحباط العام.
إذاً ما العمل للخروج من هذه الدائرة؟ أننتظر أن ينصلح حال البلد حتى نساعد ملايين الفقراء الذين حولنا، أم أن نسارع بالسفر كما يتمنى الكثير منا ويعمل على ذلك، أم أن يكون كل همنا هو "البقاء" كحلم كل من يعيش في أي دولة قمعية فقيرة؟
الإجابة يستطيع أن يجيبها كل واحد منا على حدة، ولكن إذا كان لدينا شيء نقدمه فلا يجب أن نتأخر. وليكن من باب التعليم والخبرة إن لم يكن من باب الإنسانية أو الدين.