"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَون إن كنتم مؤمنين"
منذ لحظة إنتهاء مجزرة إعتصام رابعة العدوية وأنا ومثلي الكثير يكتم الآلام ليس راغبا ولكن لا يستطيع أن يتكلم من الأساس، فماذا يقول ؟ هي آلام لا تقال، ولكن بعد أيام وأسابيع وأشهر شعرت ببعض الأحاسيس التي جعلتني أحمد الله على كل ما حدث وأن أرى المِنَح من المِحَن..
أين المنحة في قتل أبرياء أطهار ؟ أين المنحة في ترويع آمنين يعيشون الآن بنفسية وأعصاب مضطربة نتيجة ما رأوه وسمعوه من قتل وصراخ وإستغاثات، وأزعم أنني من الأقل ضررا وتعرضا لمشاهد عصيبة فما سمعته من غيري لا يقوى عليه إنسان ولا حول ولا قوة إلا بالله..
أين المنحة من القضاء على أجمل شيء مر علينا في حياتنا ؟ "رابعة" هذه البقعة وهذا الجمع الذي لم يزل يترك في الوجدان والقلب ذكريات ومشاعر وإيمانيات وأكثر مما لا يستطيع اللسان قوله والقلم كتابته والذهن ترجمته...
أين المنحة ؟ ..
المنحة يا إخواني حسب إجتهادي وما وصلني من شعور هي الدروس المستفادة..
أولا.. ألا نتعلق بأسباب ولكن التعلق يكون برب الأسباب، فها هي رابعة قد ذهبت ولكن هل القضية ذهبت وفنيت ! إذن من كان يذهب ل"رابعة" من أجل المكان وأمانه وصحبته فإن المكان قد أبيد وفني ولم يبقى إلا رب المكان.
ثانيا.. أن نتواضع لله ونرى إخواننا بالمنتصف الذين كنا نصنفهم جبناء ومتخاذلين (مع الوضع في الإعتبار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيكون المؤمن جبانا؟ قال نعم") إذاً فلو إفترضنا أنه فعل ذلك خوفا فهذا لا ينزع صفة الإيمان عنه، ولا يجب علينا أن نتهمه بالمتخاذل الخائن، ولا نساويه بمن وقف مع الظالم وأيده، وأن نعلم أنه أيضا ما وقف وقفته وما تخلف تخلفه "وإن إختلفنا معه" إلا لأنه لا يريد دماءً تُزهق .. حتى ولو تمت العسكرة والإحتلال ولكنه يؤْثِر كل ذلك على أن يرى دماء زكية تُزهق.. وهذا إجتهاده ونختلف معه بالتأكيد !
ثالثا.. أن ننظر للشوارع الممتلئة بالسيدات والرجال والشيوخ والأطفال والشباب .. كم هم شجعان وكم هم أعزة مرفوعو الرأس لم ينكسروا برغم هول ما رأوه ومروا به .. ثم ندرك أن هذا الشعب - وليس ذاك كما أطلقوا على أنفسهم - عظيم لا يخاف في الله لومة لائم، لم يستسلم للظالم ولم يجزع ولم يخنع، بل يقف عارِيَ الصدر يواجه الموت والإعتقال بكل شجاعة وقوة لا يهاب إلا الله تعالى.
رابعا.. أن نرى بأعيننا من وقع منا وآثر الصمت لأن "رابعة" الأم التي كانت تؤويه ذهبت وأن الشهادة لها بديل آخر وهو الإعتقال ! فنحمد الله أننا لازلنا نقف وقفتنا ولم ننكسر ولم نخَف، ولأننا نعرف طريقنا جيدا لا نتأرجح بين فريقين ولم نحايد وقت معركة الحق والباطل. وندعو الله لهم بالهداية وندعو لأنفسنا بالثبات على ما نحن فيه.
خامسا.. أن ندرك أن ما مررنا به وما نمر هي عبارة عن محطات، نجحنا في الأولى وحان وقت الثانية ثم الثالثة حتى يأتي وعد الله ونحن كذلك لا يضرنا من خذلنا ولا يضرنا من إرتقى شهيدا أو إخوان لنا أُعتقلوا.
سادسا..أن نعلم أن الله قد جاء بنا إلى هذا المكان لحكمة، ثم إبتلى بعضنا ليشهدوا هذا اليوم لحكمة... وأنا أعتقد أن الحكمة هي "التربية" لما هو أكبر من ذلك..
سابعا.. أن ندرك قيمة الحب في الله، فكم من أخ لك لم تلده أمك لم تكن تعرفه وتعرفت عليه في "رابعة" أصبح الآن أقرب إليك من أصدقاء الطفولة ورأيت معه الموت حتى من لم تجلس معه كثيرا ! كم أخ لك لم تعرفه أصبحت الآن تؤثره على نفسك ومستعداً لأن تضحي بنفسك من أجله ! هذه نعمة لم يشعر بها من لم يذقها، ويالها من نعمة
ثامنا.. أن نعلم أن ما مررنا به ليس بالأمر السهل، فغير الإتهامات الباطلة والظلم من أقرب الناس إلينا وترديد الشائعات والأكاذيب بدون تبَيُّن، فما رأيناه من ترويع ودماء وحزن على مدار الشهور الماضية لم يكن سهلا، ونحن لم نعتاد على ذلك ولم نتدرب على رؤية ذلك ولا على التعامل معه، فلسنا عساكر بالجيش ولسنا مسلحين ولسنا مهيئين لهذا الكم من الدماء والترويع.. ولسنا إرهابيين لنرى أصدقائنا بما فيهم من لازال يدرس بالمدرسة الآن في المعتقلات يؤخذ من بيته في جوف الليل بالأسلحة ! نحن لسنا حجراً ولسنا بلا قلب ولم نتخيل أبدا أن جيش بلدنا مهما وصل به الجرم أنه سوف يفعل بنا ذلك .. نعم كانت صدمة وأي صدمة فضلا عن الهم والحزن لفقدان حبيب أو صديق فضلا عن روع المشاهد..نحن لسنا صخورا ولا جبالا..نحن بشر..فلنثق بأنفسنا ولنعلم أن ما مررنا به لم يمر به إخواننا في غزة، فهم خلال ثلاثة أسابيع قُتل منهم ألف ولاثمائة ونحن في بضع ساعات قُتل منا الآلاف..وبتفويض من أناس يعيشون معنا وبيننا !
تاسعا.. أن نراجع أنفسنا وتقصيرنا مع الله .. فكم من تقصير قصرناه في العبادات في رابعة بسبب التعب والإنشغال (وأنا هنا أتكلم عن نفسي)، ولكن هنا الإختبار الآخر...كيف حالنا مع الله ؟ كيف حالنا مع الصلاة، مع قراءة القرآن، سماع القرآن، الذكر ؟
عاشرا.. يوجد حديث ضعيف يقول "رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر ، قالوا : وما الجهاد الأكبر..قال : مجاهدة العبد هواه (أو) جهاد القلب" - فإن صح الحديث أو لم يصح فما أريد أن أقوله أن جهاد النفس في "رابعة" كان سهلا، كانت الصحبة خير معين، وكانت المعية خير دليل، وكان التجرد والزهد في متاع الحياة الدنيا ولو نسبيا خير مُرَبٍ.. أما الآن فأنت وحدك، تنام وحدك بدون معية إخوانك في المسجد وعلى الأرض، ترجع لعملك من جديد، تحاسب نفسك على صلوات الجماعة وحدك، ترى مغريات الحياة وإنشغالاتها وتقاومها وحدك .. وهذا من أصعب الإختبارات... بعد رمضان وبعد "رابعة"..
نحمد الله على كل هذه الدروس والمنح التي منَّ الله علينا بها ورقق قلوبنا بها ونسأل الله أن يتم نعمته علينا بالنصر ويحقن دمائنا وأن يحفظ عوراتنا ويأمن روعاتنا ويفك أسر إخواننا المعتقلين ويربط على قلوب أهليهم وذويهم ويرزقهم الصبر والثبات..